في خمسينيات القرن الماضي وتحديداً في مدينة القامشلي شمال سوريا، وبينما كانت امرأة تدوّخ نصف رجال المدينة، تقطع الممر المعتم الطويل باتجاه مكتب رئيس فرع الأمن، سمعت مجموعة رجال ينهالون بالضرب على رجل مغطى بدمائه. اقتحمت المكتب وأبعدتهم عنه واحتضنته طويلاً، قبل أن تطلب من رئيس الفرع أن يطلق سراحه فانصاع لما طلبته منه كونه لم يكن يرفض طلباً لصديقته. الرجل كان شيوعياً عريق هو والد الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي. القصة سيرويها لنا الفنان السوري مراراً وكلّ مرة بنفس الحماس والشغف من دون أن تفقد عيناه البريق ذاته عندما يستذكر المرأة التي لا يعرفها إلا من رواية أبيه... إلى درجة أنّه أهدى تلك المرأة أحد معارضه كنوع من ردّ الجميل. ولأن الابن سر أبيه، لن يكون غريباً على عبدلكي حياة السجون لدواع سياسية! إذ اعتُقل أكثر من مرة بسبب توجهه اليساري، وأحلامه بالحرية والعدالة والمساواة. لم يتعاط يوماً بشكل إقصائي، كما أنه لم يصادر حرية التعبير من أحد. ربما السلوك الوحيد «القمعي» الذي تورّط فيه بذريعة الشغل هي العبارة التي كتبها على باب مرسمه في حي ساروجة الدمشقي «مدّة الزيارة نصف ساعة». ظلّت حياته مفتوحة على الاحتمالات وترك الفرصة الوافية للآخرين لكي يختاروا المكان المناسب من دون أن يصيروا خصوماً. رفض يوسف فكرة السفر والخروج من بلاده رغم حمّام الدم الذي تعرّضت له منذ سنة 2011 ورغم مواجهته هو شخصياً اعتقالاً آخر دام قرابة شهر عانى فيه الكثير وخرج شبه هيكل عظمي، فاحتفلت به دمشق المسيجة بالقسوة والجلافة!عبدلكي هو ابن المرحلة الذهبية في الشام عندما كان شيوخ الكار هم نجوم تلك الحقبة. في المسرح هناك فوّاز الساجر وسعد الله ونوّس، وفي الأدب مدوح عدوان، وفي الشعر يلمع نزيه أبو عفش، بينما حظوة يوسف عبدلكي تنفرد بالفن التشكيلي! كان نتاجه آنذاك يعبّر عن حراك المرحلة. إذ كانت تظهر الخيول وكأنها تصهل بغضب في معظم لوحاته ما اعتبر بأنّه تعبير موضوعي عن التعسف والقمع وصرخة الغضب في وجه تلك السلوكيات الإقصائية. لاحقاً، ستتبدل طقوس وأشكال النتاج من دون أن يتخلى الفنان السوري عن هويته ومنطقه، إنما سيرتهن لنضجه ووعيه وتراكماته واستلهامه مما يحيط به! يوسف رفض بكامل إرادته الجنسية الفرنسية رغم أنه عاش هناك أكثر من 25 عاماً فيما ظلّ يعتبر باريس مجرد صالون انتظار! لكّنه في المقابل مثلاً سيقبل أن يكون ضيف مهرجان شبابي بسيط في «مشتى الحلو» مثل مهرجان «الدلبة» ويتمنى له ألا يتوسع بل أن يتعمّق، بمعنى أن تكون خياراته أدق وأعلى بالنسبة للرسّامين والنحاتين والسينمائيين، فهناك الكثير من المهرجانات الكبيرة والمنظّمة لكنها تتجه صوب الدعاية والإعلان، لكّنه ظلّ يفضّل مهرجاناً صغيراً لكن نوعياً، يعطي للناس فرصة حقيقية في التنفس بثقافة حرّة!
سيكون يوسف عبدلكي يوم الأحد القادم الموافق للرابع من حزيران (يونيو) على موعد مع افتتاح معرض جديد في صالة جورج كامل - المزة (خلف اتحاد الكتاب العرب).