«ليكي أمي أنا رايحة أعمل هلق جلسة تعذيب مع هيدا اللي اسمه ماهر». فعلياً، إنه شريطٌ مباشرٌ، قاسٍ، بلا مجاملة. هكذا يمكن وصف «الشاطئ الآخر» (63 دقيقة) العمل التوثيقي/ الدرامي في آنٍ. «لا يمكن فصل الدراما عن الواقع؛ والحياةُ دوماً مدهشةٌ أكثر»، هكذا قال مرةً الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز... هذه الواقعية هي ما نراه في هذا الفيلم اللبناني الصادم الذي يتناول شخصين من «ذوي الهمم» ممن أثبتوا ولا يزالون أن المجتمع ليس متحضّراً بعد لهم، خصوصاً في بلدانٍ لا يحظى فيها الإنسان بأي تقديرٍ أو احترام.يختار أبي سمرا بداياته بشكلٍ مدهش: تحكي بطلته سيلفانا اللقيس، التي تعيش على «كرسيٍ مدولب» كيف كانت المؤسسة التي «تحتضنها» إبّان طفولتها، تفرض قيوداً قاسية على والدتها: «ممنوع تجي تزوريا ساعة اللي بدّك، وكيف كانت تعيطلي من تحت الشباك، وتسمعني وإسمعا، بس ما شوفا». هل كان ثقيلاً على تلك المؤسسات أن تسمح للأهل بزيارة أولادهم يومياً؟ بالتأكيد كانت تستطيع، لكن الكسل والإهمال والصلف ربما أبرز ما ميّز المؤسسات العاملة في هذا الحقل. منذ بداية الشريط، تقول سيلفانا لمخرج «شيوعيين كنّا» (2010):
«شو بيفيد هيدا الحكي، شو بيفيد؟» هي تدرك أن هذا الحديث، إن لم يكن مدعوماً بقوة سياسية أو اجتماعية أو حتى مالية لن يفيد البتة؛ مشيرةً إلى أن مديري هذه المؤسسة، رفضوا السماح لها بالالتحاق بصفوف التعلّم، لأنها دخلت «غصباً عنهم على حساب الوزارة للعلاج». ما قالته سيلفانا عرّى ما يحدث يومياً في تلك المؤسسات، التي لا يعرف كثيرون ما يجري في داخلها، «كأنه الواحد بس يروح لعندن التغى وجوده ولازم يخضع لقرارن» وفق ما تقول سيلفانا. هذا بالنسبة إلى المؤسسات، لكن ماذا عن الناس؟ الأقارب؟ الجيران؟ «كانوا يمنعوا ولادن يلعبوا معي عشان ما اعدين» هكذا ببساطة تلخص سيلفانا الجهل المعشّش في المجتمع. يأخذ المخرج بطليه في رحلةٍ ميدانية إلى المتحف الوطني. هناك، يسأل الضرير محمد لطفي المشرفة عما إذا كان يمكنه لمس ناووس أحيرام وهي تشرح له عنه. يشرح محمد لاحقاً بأنّ المجتمع مبني على منطق الأقوى و«الصحيح»، ولذا يريد التخلّص من «أفراده غير الأصحاء» بهدف «إعادة إنتاج صورة أكثر كمالاً للإنسان». يتحدّث عن العزل كفكرة رئيسة في التعامل مع حالات الإعاقة أو «الاختلاف»، وهذا «استمرار لحالة التخلّص، منقتله أو نغيبه». يكتب محمد لاحقاً: «عزلنا التدريجي إلى المأوى والمؤسسات الرعائية، بدأ مع وصول الإرساليات الأجنبية، التي فصلتنا عن بيئتنا على أساس إعاقتنا. ومع استقلال لبنان، تبنّت الدولة الناشئة منطق العزل ذاته». يقدّم الشريط لاحقاً تأريخاً للمؤسسات الرعائية التي وجدت في لبنان الناشئ آنذاك بدءاً من «المدرسة الإنجيلية اللبنانية للمكفوفين» عام 1868 (وهي الأقدم وقد أغلقت لاحقاً)، ثم «مستشفى دير الصليب» عام 1923، وصولاً إلى «دار الأيتام الإسلامية» عام 1933 و«المدرسة اللبنانية للضرير والأصم» (1957)، و«مأوى ومشغل المعوقين» (1963) الذي أغلق هو الآخر لاحقاً، وأخيراً «مؤسسة الكفاءات» (1971). قصص كثيرة تظهر لنا تفاصيل الحياة بمباشرتها ومن دون رتوش، تلك التي يعيشها ذوو الهمم بشكلٍ يومي من كيفية تعاطي المجتمع معهم والتمييز الذي يبديه أفراده تجاه هذه الفئة، ولو بشكل غير واع أحياناً.
عُزل ذوو الاحتياجات الخاصة مع وصول الإرساليات الأجنبية


يكشف أبي سمرا في «الشاطئ الآخر» الحياة السرية للمجتمع اللبناني التي لا يريد أحد أن يراها أو يعرفها. إنّها الحياة الدائرة في الشوارع الخلفية للمجتمع البرّاق ذاته الذي تصوّره الآلة «العميقة» بشكلٍ مبهرج و«كلاس». هنا نرى الحياة بواقعها الفجّ، بلا تجميل أو تمايز، حيث التغوّل يشكّل سمةً والقسوة البشرية حجراً أساسياً في تكوين المجتمعات. يشرح محمد لطفي كيف أُخذوا كأطفال من مؤسسة المكفوفين لتصوير إعلان رمضاني لدفع الناس للتبرع في مناسبة «شهر الخير». أحضروا محترفين «ليصوّرونا. ألبسونا ثياباً وطاقية سوداء. ذلك أن المدير اعتبر أنها مناسِبة للدور. هم يريدوننا بائسين، ونحن لم نكن نقدر على قول لا». هكذا يختم فكرته التي تأتي بمثابة الصفعة المدوية.
نحنُ أمام شريط قوي يستخدم فيه ماهر أبي سمرا لغة مباشرة على عادته... أمام عالم «خاص»، يحاول كثيرون التعامي عنه، وتجاهله، كما لو أنه غير موجود. ومن يعرف بوجوده، يتعامل معه ــ لقلة دراية لربما ـــ بقلة إدراك وحتى باستغلال. يأتي بطلا العمل مرهفي الحسّ، ذكيّين، مدركين تماماً لماهيتهما وماهية حالتهما، وفوق كل هذا صادقين مباشرين، وهذا ما يجعل الفيلم واحداً من أجمل أفلام العام، أقساها وألطفها في آنٍ معاً.