سعاد أبو نكد، فردوس آغا، نهاد الجردي، فاطمة جمال، ليلى حرفوش، وداد حلواني، مريم سعيدي، مي السيّد أحمد، يولّا فرحات، سهاد كرم، سوسن كعوش، حياة ماضي، نبال مطر، أنجاد المعلّم، سعاد الهرباوي... هنّ خمس عشرة سيدة ولكنّهن أكثر من ذلك بكثير، وقد لا يتوافر إحصاء يوثّق فقدهنّ وأعدادهنّ، منهنّ كاتبة هذه السطور التي فقدت والدها قبل أن تتعلّم نطق كلمة «بابا»... طَحنهن الفقد، طحن حبّهن لأقاربهنّ أرواحهنّ، وسحق الوقت كلّ ما يتعلّق بكونهنّ يستحققن الفرح والحياة والاستمتاع بطعمها.لا جديد في المرحلة الحالية، فآخر انتصار لـ«لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان» كان انتزاع قانون تجلّى على شكل هيئة وطنية للمفقودين والمُختفين قسراً (وطنية أي تابعة للوطن لبنان، هدفها البحث عن مواطنيها). لكنّ الجديد هو سبر أغوار الإحساس، عملية إنعاش ذاكرة، وتصويب بوصلة حق... كل ما سبق يتجلّى في كتاب «طواحين الهوى» (رسوم تانيا رضوان ـــ توزيع دار نلسن ــ دعم وزارة الشؤون الخارجية لمملكة هولندا) الذي جاء ثمرة تعاون بين «المركز الدولي للعدالة الانتقاليّة» و«لجنة الأهالي...»، وأبصر النور أخيراً بعدما خضعت السيّدات لورشة في الكتابة الإبداعيّة مع الكاتبة فاطمة شرف الدين على مدى أكثر من عام.

من الكتاب: رسوم تانيا رضوان


فاطمة شرف الدين: نكتب كي لا تموت القضيّة
نسأل فاطمة شرف الدين عن هذا المخاض الصعب الذي يستدعي ذاكرة مثخنة بالجراح المفتوحة منذ أكثر من أربعين سنة. تقول لنا: «بدأ المشروع حين اتصلت بي رئيسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان» وداد حلواني، ومديرة «مكتب بيروت للمركز الدولي للعدالة الانتقالية» نور البجاني نور الدين. طلبتا منّي تقديم الورشة. كان الخوف ردّة فعلي الأولى، فالخطوة صعبة بالنسبة إليّ. نبع خوفي من كوني ابنة جيل الحرب اللبنانية. في عائلتي، كنتُ محميّة من فظائع الحرب، ما جعلني أعيش في فقّاعة، ومن ثمّ علّمت نفسي العيش في فقاعة كي أحمي نفسي من بشاعة الموت والحرب والخوف. لذا حين طُلب منّي القيام بهذه الورشة، عرفت أنّ هذه الفقّاعة ستنفجر إلى غير رجعة، وقلت إنّ عليّ مواجهة الواقع. في الجلسة الأولى مع النساء، كنت شديدة التوتر وهنّ كذلك. أعلنّا توترنا على الملأ، وقلت لهنّ: «فلنسترخِ جميعاً ونستمتع بالجلسة». طلبتُ منهن التعريف بأنفسهن. في التعريف الأول، عرّفت كل واحدة عن نفسها بهذه الطريقة: «أنا سعاد ابنة فلان المخطوف»، أو «هذا اسمي وأنا والدة مخطوف»، أو «أنا زوجة مخطوف»... قلت لهنّ: أعرف سبب مشاركتكنّ في الورشة، لكنّني أريد أن أعرف مَن أنتنّ. ثمّ قمنا بدورة أخرى للتعريف، وهذا ساعدهنّ لينتبهن إلى أنهنّ موجودات ككائنات، وهويتهنّ ليست فقط صلتهن بالمخطوف.




وهذا كان هدف الورشة بالنسبة إليّ، أن يجدن مكاناً للتعبير عن تجربتهن خلال أربعين عاماً أو أكثر أو أقلّ، وعن معاناتهنّ، وليس فقط عن المخطوف وما الذي حدث يوم اختطافه، وكيف بكين وزرن هذا الوزير وذاك الرئيس. لم أكن أريد هذه التفاصيل. كنتُ أريد معرفة كيف عشن هذه التجربة عاطفياً. أولى المحاولات الكتابية في الورشة كانت جميعها متصلة بحقائق حدثت. تعذّبتُ لأستطيع إكسابهنّ ثقة بأنفسهنّ وإقناعهن بأنّهن يمكنهنّ إخبار قصّة لها علاقة بهنّ. وبما أنّ المستوى التعليمي لهذه المجموعة من النساء كان متدنياً، فبعضهنّ أميّات ومنهنّ من تزوّجت في الرابعة عشرة من عمرها ولم تقرأ كتاباً في حياتها، كان التحدّي في تعليمهنّ أسس القصّة ومنطقها. أجرينا العديد من التمارين حول هذه التفاصيل. انتهت الورشة الأولى وبدأ العمل بعد ذلك. بعد انتهاء الورشة، عملتُ مع كلّ سيدة على حدة عبر الواتساب أو عبر مقابلات وجيزة، طوّرنا قصصهنّ الخمس عشرة. تدخّلي كان شديد العمق في جزء من القصص، وأقلّ عمقاً في جزء آخر، وبالطبع كنت مسؤولة عن تنقيح النصوص ليكون لها شكل القصّة، متسلسلة ومشوّقة».
صعوبات عديدة واجهتها شرف الدين. على سبيل المثال، «هناك سيدة خُطف ابنها، قالت لي: كيف تريدين أن أتذكّر كيف شعرتُ يوم اختطافه؟ كيف تريدين أن أتذكّر مسيرتي خلال أربعين عاماً؟ صعب جداً. المعاناة كبيرة وكنت دوماً أمام هروبهنّ من مواجهة الواقع ومن مشاعرهنّ. عند الانتهاء من الورشة، أجرينا تقييماً لكلّ ما قمنا به. معظمهنّ قال إنّ هذه الورشة كانت بمثابة علاج نفسي لهنّ». تشير شرف الدين إلى أنّ «علينا أن نجري هذا النوع من الورش باستمرار كي نوثّق هذه القصص في كتب مطبوعة بغية تخليد قصص المخطوفين، فكثيرة هي القضايا التي ما زالت عالقة على صعيد الحرب اللبنانية. الحرب لم تنتهِ، من هذه القضايا العالقة هو هذا الجرح المفتوح».
لماذا عنوان «طواحين الهوى»؟ تشرح: «كانت أمامنا لائحة طويلة من العناوين. في النهاية كان الحسم للسيدة حلواني التي قالت «طواحين الهوى». فسّرت لنا أنّ مَن يعيش هذه الدوامة منذ أربعين عاماً، هو في طاحونة، فنحن ندور من رئيس إلى آخر، ومن أمل وإلى خيبة أمل، ومن مسؤول سياسي وإلى تظاهرات. نعيش في طواحين الحبّ منذ أربعين عاماً، نناضل كرمى لمَن نحبّ».





وداد حلواني: نصف قرن على الانتظار
تقول رئيسة «لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان» وداد حلواني: «مرّت أربعة عقود على أهالي المفقودين وأنا واحدة منهم، نعيش في فراغ موحش ناتج عن فقدان شخص عزيز على قلوب تحبّه… كثر يعيشون هذا الوجع والفراغ منذ بداية الحرب الأهلية عام 1975، الانتظار هو الأساس. لا أريد قول إنّ مَن لم يعش هذه الظروف لن يقدّرها، بل أقول إنّني لا أتمنى أن يعيشها أحد. كلّ المتابعين لقضيتنا يعلمون أنّنا لم نجلس لنبكي وجعنا ونشكو انتظارنا، قمنا بكلّ ما استطعنا بصوت عالٍ، ناضلنا ومشينا في مسيرة طويلة ولا نزال نسير، مشينا خلال الحرب ولم نخف من القصف. كنّا نناضل كي نكسر صمت المسؤولين وضعفهم، وكانوا يقولون لنا: ميليشيا الحرب أقوى منّا، وصاروا في سدّة المسؤولية ولم تتغيّر الأمور. أصواتنا ملأت الشوارع وبعضها يحفظ عن ظهر قلب دوس أقدامنا عليها، لندعوهم إلى تحمّل مسؤولياتهم ورفض لامبالاتهم وتذكيرهم بدورهم. لجنة أهالي المفقودين لا تضمّ سوى أهالي مفقودين. فكّرنا مع بعضنا، بخاصّة في ما يتعلّق بأعضاء الهيئة الإدارية للجنة.
كتاب يوثّق معاناة 15 سيّدة لبنانية من أهالي مخطوفي الحرب الأهلية

وجدنا أنّه من المهمّ خلق فسحة أمام الأهالي حتى يُخرجوا ماذا يدور في دواخلهم. قلنا إذا وجدنا هذه الفسحة، نترك للأهالي المجال في التعبير، ونجعل هذا البوح النابع من عمق المرارة يسهم في تذكير الشعب اللبناني». تستطرد قائلة: «نعلم أنّ هناك أزمات كثيرة في البلد، لكن يجب أن يتذكّر الشعب أنّ لديه إخوة في الوطن إذا صحّ التعبير لم يأتوا من كوكب آخر. إنّهم إخوتهم في المواطنية، لا يزالون يعانون من آثار الجرائم التي ارتُكبت في الحرب. هذه الحرب التي أُعلن عن انتهائها منذ حوالي ثلاثة عقود ونصف عقد. آمل أن تكون هذه التجربة المتواضعة مجدية». وعن معايير اختيار السيّدات، تقول: «كان الخيار على قاعدة التنوّع. عندما نقول إنّ أهالي المفقودين طائفة عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق والانتماءات الفكرية، نعلن حقيقتنا... حاولنا أخذ عيّنة تحوي هذا التنوّع. لسنا كاتبات ولا مؤلّفات ولا أديبات ولا مؤرّخات ولا شاعرات. نحن نساء عاديات جداً، ارتُكبت جرائم بحقّ أهالينا وبحقنا وتحوّلنا إلى ضحايا غير مباشرين. نحن مثل كلّ اللبنانيين وغير اللبنانيين المقيمين في لبنان (بيننا مفقودون غير لبنانيين فُقدوا في لبنان)، نحن عائلة واحدة. فلا يفكّرنّ أحد أنّنا ولدنا وصفتنا أهالي مفقودين. نحن نحبّ الفرح والتسلية. نحب أن نعمل ونرتقي في المجتمع، وأن نكزدر ونحتفل بالعيد. لم نولد كي نُقهر ونغضب ونبكي ونتألّم. على الإطلاق. ولا أولادنا أيضاً».

* احتفال إطلاق «طواحين الهوى»: بين الرابعة والثامنة من مساء اليوم ــــــ «دار الوردية» (شارع الوردية ـ الحمرا ـ بيروت) ــ تتخلّل الاحتفال قراءات لمقتطفات من الكتاب ومعرض صور، ويُختتم بتحيّة غنائيّة ـ موسيقيّة مع الفنانة أميمة الخليل والمؤلّف الموسيقي هاني سبليني ــــ ريع الكتاب يعود لدعم لجنة الأهالي ـ للاستعلام: 03/609554