أطلق الكاتب والصحافي اللبناني زهير ماجد أخيراً كتابه الجديد «وعاد مستشهداً: البقاء للمقاومة فلسطين» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ــــــ 221 صفحة من القطع الصغير). إنه أشبه برواية تسجيلية قبل أي شيء. رواية يحتاج إليها الأدب العربي لأسباب متعددة، ربما أبسطها أنّها تؤرّخ لمرحلة لا يعرف كثيرون عنها شيئاً: مرحلة رحيل أحد القادة التاريخيين للشعب الفلسطيني، ونعني «الختيار» (كما يلقّبه محبّوه) ياسر عرفات، أو أبو عمّار. تدور الرواية التسجيلية، وإن لم يسمّها الكاتب ذلك، حول الأيام الأخيرة من حياة القائد الراحل، وعلى لسان «بطلٍ شبه وهمي» اختاره الكاتب ليكون صوته ولسانه في هذا العمل التأريخي الخاص. لكن ذلك لا يعني أنها تحصر الأمر بالتسجيل، بل بالتعليق عليه وإيضاحه وتقييمه إن أمكن.يبدأ الكتاب في صفحته الأولى باستحضار نصوص شعرية لشعراء ومثقفين وحتى سياسيين يتناولون فلسطين، كمحمود درويش، والشاعر اليوناني يانيس ريستوس، والسياسي الفلسطيني نبيل عمرو، مشيراً إلى لسان ريستوس: «آه فلسطين... يا اسم التراب، ويا اسم السماء... ستنتصرين». استعاد كذلك جملة درويش التي أبّن فيها «أبو عمّار» حينما قال: «كان ياسر عرفات الفصل الأطول في حياتنا، وكان اسمه أحد أسماء فلسطين الجديدة، الناهضة من رماد النكبة إلى جمرة المقاومة إلى فكرة الدولة، وفي كل واحد منا شيءٌ منه».
في بدايات الكتاب نوع من محاولة التصالح بين الأجيال على أساس أبياتٍ شعرية للشاعر المصري الراحل صلاح جاهين الذي قال: «تعالوا يا أجيال يا رمز الأمل/ من بعد جيلنا واحملوا ما حمل/ وافتكروا فينا واذكرونا بخير/ مع كل غنوة من أغاني العمل». في مقدّمته، يشرح المناضل زهير ماجد: «هذا الكتاب فلسطيني الروح والهوى والأمل، أليست فلسطين الناطقة باسم أرواح العرب وبمحبة العرب وأملهم بتحريرها... فيمكن القول إن أبرز من عاصرناهم وعايشناهم من أسمائها كان ياسر عرفات». يشير إلى هدف هذا الكتاب الذي «لا يحكي إذاً سيرة الرئيس عرفات، بل هو عملية مزج بين الفعل العرفاتي برمزيته والقضية الأم ووقائع الشعب الفلسطيني». يشرح ماجد عن «بطله»: «الشخصية التي دعوتها جهاد خالد، وهي التي تسرد حكاية الأيام بين رحيل عرفات من رام الله ووجوده في المستشفى الفرنسي وصولاً حتى وفاته، إنما أرادت أن تنقل وقائع الخواطر التي داعبت خيالها وإحساسها، وهي أيضاً ترجمة لخواطر الشعب الفلسطيني الذي عاش على أمل أن يخرج قائده معافى». طبعاً لا يمكن أن يفوت القارئ الرمزية الواضحة للاسم. إنه جهادٌ خالدٌ، كما كانت بيانات «العاصفة» (وحركة فتح) تختم عادةً بأنها «ثورةٌ حتى النصر». ضمن خمسة فصول، يقدّم الكاتب عمله التسجيلي: «وداعاً يا حلم!»، و«بلا سلاح!»، و«الفدائي عرفات»، و«فدائي بثوب قدّيس»، و«وثيقة أبو إياد العاصفة».
إحدى أجمل محطّات الكتاب شرحه لأغنيات الثورة وأناشيدها


يأتي «وداعاً يا حلم!» كأطول فصل في الكتاب، وفيه يتناول المؤلّف الأيام الأولى لرحيل «القائد» (حسب توصيف بطله) إلى باريس للعلاج ضمن الرحلة الأخيرة التي لن يعود منها أبو عمّار. يؤرخ لمجلة «فلسطيننا» التي أسّسها توفيق حوري، وأضحت «مساحة عشق لفلسطين، بل صارت لغة المخيمات التي هبّت لتقرأ وتشارك وتستعد». يستعيد الكتاب دور «أبو عمّار» وأهميته في تلك المرحلة للثورة الفلسطينية: «كان مشروع عرفات الشرارة التي ستشعل السهل كله». يعود خلال ذكريات رحلة عرفات الأخيرة، إلى لحظة سقوط طائرة الرجل في صحراء ليبيا. يومها نجا القائد الفلسطيني، وعاده معمّر القذافي الزعيم الليبي غير مصدّق نجاته. يشير الكاتب حرفياً إلى نصٍّ نشره وزير الإعلام الأردني صالح القلاب «لقد قدروا عليّ». جملة قالها عرفات على إثر سؤال عمّا به. لم يقدر عليه حصار إسرائيل، لكنّ ثلةً ممن حوله (كما يؤكد ناصر القدوة بحسب الكتاب) سمّمته؛ ليغوص الكاتب في ما إذا كان مَن «خطّطوا لتسميمه»، «يتأملون المشهد الشعبي المتأثر بحزن ودمعة».
ينطلق الكاتب بعدها للحديث أكثر عن تجربة عرفات، بدءاً من إنشاء «صوت العاصفة» الإذاعة الرسمية لمنظمة التحرير التي انطلقت من القاهرة في 11/5/1968 بعد أقل من شهرين على «معركة الكرامة» (21/3/1968)، وقد أرّخت لوجود المنظّمة وكذلك أوّل هزيمة للجيش الصهيوني أمام الفلسطينيين كوجودٍ مسلّح. إنه يستخدم الذاكرة (الفلاش باك) ليروي قصصاً حدثت مع القائد الراحل: هناك «ياسران» إذاً: «الأول مسجون بجسدٍ مريضٍ مسموم، والثاني حرٌّ طليقٌ في الذاكرة». ينتقد الكاتب، عبر بطله، الرئيس الراحل: «شعر الكاتب جهاد أن الضرورة النقدية لمسيرة عرفات تقتضي إصدار حكمٍ عليها». ولا ينسى أن يعرّج على المقابلة الشهيرة التي أجراها الروائي الإيطالي المعروف ألبرتو مورافيا مع أبي عمّار واندهاشه بكاريزماه وفطنته، وصولاً إلى 1/1/1956 اليوم الذي صدر فيه أوّل بيان رسمي لحركة «فتح»؛ حين أصبح أبو عمّار «النجم الأوّل الذي سيطر لسنين عليه (يقصد الإعلام). كان هذا البيان أشبه بالحلم، لكنه واقعي». يغوص الكتاب-القصّة-الرواية في تفاصيل جانبية تكاد تكون هي القصّة لفرط سلاستها وأهميتها، كأن يخبرنا أن القائد الراحل «لم يقنعه أن يسمع فيروز تقول: «سنرجع خبرني العندليب». الطائر الجميل لا يخبر، الرصاصة وحدها هي الخبر والمخبر». فالرجل الذي درس «حرب الغوار» للثائر الأرجنتيني تشي غيفارا، ورأى بأمّ العين حديد الطائرات المصرية مذاباً على مدرجاته، عرف أن البندقية و«العاصفة» هما طريق فلسطين للتحرر والتحرير قبل أي شيء. كل هذا كان بطل الرواية، أي جهاد خالد، يكتبه: «إنه لا ينسى وجه الرئيس الفلسطيني البارحة على باب الطائرة المروحية وقد تغير كثيراً عما كان قبله. الأطباء الذين عالجوه في مركز الرئاسة برام الله قبيل سفره يحتفظون بسرٍّ عميق عن حقيقة مرضه».
إحدى أجمل محطّات الكتاب، وربما أقواها، هو غوصه في السردية التاريخية لا للصراع العربي الإسرائيلي، وإن كان ذلك متضمناً في أغلب لحظات الكتاب، لكنه أيضاً في «أُس» الصراع في بنيته الثقافية والوجودية. إنه يأخذه من خلال شرحه لأغنيات الثورة وأناشيدها، منذ البيان الأوّل مروراً بالنشيد الرئيسي لحركة فتح «أنا ابن فتحٍ ما هتفت لغيرها»، عبوراً إلى «الشعب الفلسطيني ثورة على الصهيونية»، وصولاً إلى «أنا صامد وبأرض بلادي أنا صامد/ وإن سرقوا زادي أنا صامد»، و«أنا يا أخي آمن بالشعب المضيّع والمكبّل/ فحملت رشاشي لتحمل الأجيال من بعدي منجل»... من دون أن ينسى «طالعلك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع» و«طل سلاحي من جراحي». يصل في نهاية المطاف إلى «فدائي» النشيد الوطني الفلسطيني «الذي كتبه فتى الثورة سعيد المزين ولحّنه العبقري الموسيقي المصري علي إسماعيل عام 1965 وكان يومها أحد أناشيد إذاعة «فتح»، لكنه أخذ طريقه ليصبح النشيد الوطني ليس لثورة بل لدولة فلسطينية تنتظر هناك في نهاية النفق كما كان يقول أبو عمّار».

يتحدّث زهير ماجد عن «فدائيين جدد، يكبرون مع تاريخ ألهمهم بواقعية أن يكون شبابهم شهادة على وجودهم»

هذا الافتتان الذكي والمعرفي بالأغنية/ الأهزوجة/ النشيد جعله يغوص أكثر فيها، فمرّر الحديث عن الأغنيات التي أدّاها فنانون عرب معروفون أمثال أم كلثوم حين صدحت بأغنية من كلمات نزار قبّاني «أصبح عندي الآن بندقية»، ومحمد عبد الوهاب بأغنية «يا خيال النصر في يوم الفدا» وعبد الحليم حافظ في «فدائي... أهدي العروبة دمائي»، والرحابنة مع فيروزتهم: «والمجد لأبطالٍ آتين/ قد بلغوا الليلة العشرين/لهم الشمس/لهم القدس/ والنصر وساحات فلسطين».
في الوقت نفسه، يعود الكاتب إلى الزي الشهير للرئيس الراحل، وخصوصاً الكوفية التي «كانت دائماً مميزة فوق رأس الرئيس، فهو الذي صنعها رمزاً له معنى، وتحمل الكثير من المعاني التي أرادها خلال مشواره الطويل في قيادة مقاومة وشعب ومنطقة». لا يفوته أن يتنبه إلى حرب المصطلحات، حين يشير إلى «شطب مدرّسهم العراقي كلمة لاجئ فلسطيني من أحد الدروس وطلبه أن يوضع مكانها كلمة عائد». ولا ينسى الامتداد الأبدي للثورة، فيتحدّث عن «تلك المسحة الخلّاقة لشباب فدائيين جدد، يكبرون مع تاريخ ألهمهم بواقعية أن يكون شبابهم شهادة على وجودهم». هؤلاء هم «لبنانيون عرب، فلسطين قبلتهم، يحملون شعار تحريرها (...) لقد ولدت المقاومة اللبنانية، وخصوصاً حزب الله، أفقاً جديداً، وفكراً جديداً وممارسة مختلفة لكنها من عنوان المقاومة الفلسطينية».
إنه كتابٌ مختلف، روايةٌ تسجيلية تمزجُ بين الواقع والمتخيّل. وعلى الرغم من كثافة الموضوع وتشعّبه، إلا أنّ المؤلف حافظ على ثيمته الرئيسية، فلا يغيب ذكر الحدث المركزي عن تفاصيل الكتاب. باختصار، العمل إضافةٌ مهمة للمكتبة الفلسطينية قبل أي شيء، وخصوصاً في هذا الوقت الذي غابت فيه مفاهيم الصراع الأصلية عن كثيرين، وضاعت بوصلتهم.