غيّب الموت أول من أمس عبد الرحمن مجيد الربيعي (1939- 2023)، في مدينة الناصرية جنوب العراق، المدينة التي لم تغب عن نصوصه يوماً، رغم ترحاله الطويل بعيداً عن مسقط رأسه مثل رحّالة سومري، إذ صرف جزءاً من عمره في مدينة تونس. ولكن ماذا يعني أن تعود إلى المكان الأول بلا ذاكرة مثقلاً بمرض النسيان؟ عزاؤه أنه أودع قصصه ورواياته وسيرته تاريخ هذه المدينة التي أهدته روحها التي لطالما تسرّبت إلى أعماله بنوع من الحنين والفتنة.

ينتسب صاحب «الوشم» إلى الجيل المؤسس للسرد العراقي الحديث إلى جانب غائب طعمة فرمان، وفؤاد التكرلي، إلا أنه اختطّ درباً تجريبياً في عمارته القصصية والروائية المحمولة على رافعة التوثيق الشخصي في المقام الأول، إذ خبر التحولات العراقية عن كثب. ذلك أن جيل الستينيات عاش صدمة الهزيمة بأعلى تجلياتها، ما أفرز شخصية البطل المهزوم، ثم واجه محنة الانقلابات العسكرية التي ألقت بثقلها على حيوات البشر مثل لعنة أبدية. في روايته «الأنهار» (1974)، سيرسم خريطة تلك الحقبة ومراياها، وفقاً لتصورات كوكبة من المثقفين الغارقين تحت وطأة الشعارات التي انتهت إلى هزيمة حزيران 1967 وحالة الغليان الداخلي التي خيّمت على بغداد حينذاك.
اقتحم عبد الرحمن الربيعي الساحة الأدبية ككاتب قصة، وكانت مجموعته الأولى «السيف والسفينة» (1966) مؤشراً إلى موهبة لافتة. ستتلوها أعمال أخرى متعاقبة مثل «القمر والأسوار» (1974)، و«عيون في الحلم» (1974)، و«خطوط الطول... خطوط العرض» (1983). في «القمر والأسوار»، سيعود إلى ذاكرة الناصرية، نهاية الحقبة الملكية في العراق، وعتبة ثورة 1958، بالإضافة إلى رصد أحوال المهمّشين. كأن هذا الروائي مشغول بالأزقة لا الساحات، بالمراقد الدينية ولهجة الجنوب لا القصور والثكنات العسكرية. وستلفت أعماله إلى نبرة حداثية باستخدامه تيار الوعي في تأثيث نصوصه، وهو ما نلحظه في «الوشم» على نحو خاص لجهة هتك المحظور السياسي وتوثيق أحوال المعتقل وتجليات البؤس والخيبة والإخفاقات. على المقلب الآخر، سيتعقب مرايا الأحلام الموؤودة، وانطفاء الأمل. تجربة ثرية ومغامرة سردية، وجرأة في فضح الأسرار. هكذا تأتي سيرته «الخروج من باب الطاعة» مثل تأريخ شخصي لمرحلة تمتد إلى نحو أربعة عقود من المكابدات والسعي لإنجاز نصّ مختلف.
ينتمي إلى الجيل المؤسس للسرد العراقي الحديث إلى جانب غائب طعمة فرمان، وفؤاد التكرلي


في «أيّة حياة هي»، يستكمل سيرته الذاتية بشبق أكبر، وإذا به يطوف في فضاءات المدن من الناصرية وبغداد إلى بيروت وتونس: «في متون قصصي ورواياتي، تحضر المدينة حاضنة لأولئك الأبطال الخارجين عن النسق» يقول. هكذا يستعيد الناصرية بفتنة لن نجدها في مدنٍ أخرى: «مهما أحببنا من مدن وأصبح قدرنا أن نقيم فيها ونمد جذورنا، فإنّ هناك مدينة ما هي أقرب إلى الحب الأول أو أنها كذلك. أو أنها المنزل الذي يحنّ إليه الفتى». هنا يعيد ترميم فضاء روايته «القمر والأسوار» ليكتب عن جماليات مدينة الناصرية وهندستها وطقوسها المحليّة والأغاني الشعبية: «عنيت بسيرتها، ولم يخطر ببالي أنني رويت ما رويت عنها لأبقيها مشيّدة عامرة، كما عرفتها وكما عشت فيها، كأنني بما كتبت قد شيّدت معماراً سيبقى، ورويت سيرة ستُروى وأوقدت شموع ذاكرة لا تُطفأ». ويضيف: «كأنّ كل عمل روائي جديد لي فيه، استكمل سيرة الناصرية في مراحل لاحقة، وهذا ما أكدته في روايتي «نحيب الرافدين» عن العراقيين وانعكاسات الحرب العراقية –الإيرانية عليهم. هذا الروائي الرائد إذاً، هو مؤرّخ الناصرية مهب الجنوب وطعم التمر في النخيل، وسندباد المدن الأخرى. هكذا ينأى زمن البراءة الأولى بعيداً، ثم يبزق في الكتب مثل شعاع.