بعكس السنة الماضية، لم يكن الطقس بارداً فوق العادة خلال الأسبوع الماضي، ما ساعد شباب الـ «فاليه باركينغ» المستنفرين أمام مدخلَي فندق «البستان» على القيام بعملهم بسهولة نسبية، في استلام السيارات الفخمة من أصحابها العابسين غالباً، رغم الرفاهية بكل أشكالها أو ربّما بسببها. أصحاب الدخل المحدود، أصحابنا، ركنوا سيارتهم في الممرات المحيطة بالفندق العريق ومشوا بضعة أمتار للولوج إلى الباحات الداخلية ومنها إلى «قاعة إميل بستاني» حيث تقام أمسيات الدورة الحالية من «مهرجان البستان». هذا السنيورة هناك! وهذا فرعون يحدِّث سيدة من فئة «سيدات المجتمع»، على مقربة من دو فريج الذي يقوم بالمهمة نفسها مع أحد «النبلاء» على الأرجح… وبين الحين والآخر يعلو صوت النداء المسجَّل داعياً الجمهور إلى الجلوس كلٌ مقعده، محدداً الوقت المتبقّي لبدء الأمسية عند الساعة الثمانة تماماً. أما مديرة المهرجان لورا بستاني، فبالكاد ترحّب بشخص أو شخصية لثوانٍ قبل أن تنظر إلى ساعة اليد بقلق واضح. فالثامنة، هنا، يعني الثامنة، ومن يتأخّر ولو ثوانٍ قليلة ينتظر عند باب القاعة، مهما علا شأنه، ليتمّ «تهريبه» إلى الداخل بين مقطوعتَين. جمهور «البستان» معتاد على هذه القوانين، فيما يفاجأ الوافدون الجدد إلى المهرجان بهذه الصرامة «غير اللبنانية» في الدقّة بالتعامل مع الوقت التي لا تحتمل أي استثناء لا في الدخول المتأخّر ولا في تأجيل انطلاق الحفلة. هكذا كان افتتاح «البستان» الخميس الماضي. هكذا كانت أجواء الأمسيات التالية، لغاية أول من أمس. هكذا ستكون تلك الآتية المتبقّية… وهكذا كان «البستان» دوماً، في الشكل والمضمون والجمهور والأمسيات.الليالي الثلاث الأولى يمكن وضعها في خانة واحدة، إذ كانت مخصصة لأعمال أوركسترالية وأخرى من فئة الكونشرتو، وشاركت في تنفيذها أوركسترا آتية من إيطاليا وبالاشتراك مع عازفين منفردين. في الافتتاح سمعنا أولاً «السمفونية الاسبانية» للفرنسي إدوار لالو، وهو كونشرتو غير مُعلَن للكمان والأوركسترا، أدّته إيلي سو (Elly Suh) بقيادة المايسترا جيانا فراتا، وبعد ذلك سمعنا «سمفونية العالم الجديد» لدفورجاك. الأداء كان جيداً والملاحظات قليلة، بعضها شكلي وبعضها أساسي (مثل ركاكة أحد عازفي الهورن الأربعة في الأوركسترا، في مقاطع حساسة من عمل دفورجاك). أما العازفة المنفردة التي قدّمت مساهمة محترمة في الجزء الأول من البرنامج، فقد أضافت الـ«كابريس» رقم 5 لباغانيني من خارج البرنامج (أدته بتصرّف وأعطته ملامح جملية)، في حين قدّمت الأوركسترا عملاً خفيفاً للأميركي لِيرُوي أندرسون (Leroy Andersson) بعنوان «الآلة الكاتبة»، وهو قطعة ترفيهية أكثر منها موسيقية، حيث يُستخدم الداكتيلو كآلة قَرعية (وإلى جانبها الجرس الذي نجده عند الاستقبال في الفنادق)، ترافق بعض الجمل الموسيقية، في حين يوحي «العازف» بأنه في صدد كتابة رسالة، نكتشفها في النهاية: I Love Lebanon. تولّى الضرب على الداكتيلو في هذه المحطة المايسترو بييرو رومانو، في الافتتاح كما في الأمسيتَين التاليتَين. الأخير قاد أيضاً الأوركسترا في الليلة الثالثة، في برنامج حوى عملاً أوركسترالياً لبوتشيني والكونشرتو الشهير للتشيلّو للإنكليزي إلغار، أدّته مواطنته ناتالي كلاين بإحساس وبراعة، ثم أضافت منفردةً من خارج البرنامج «نشيد الطيور»، المقطوعة المبنية على لحن شعبي كاتالوني التي أعدّها الأسطورة بابلو كازالس لللتشيلّو. بين هاتين الأمسيتَين، تولّى في الليلة الثانية المدير الفني للمهرجان جيانلوقا مارتشيانو قيادة المجموعة الإيطالية في برنامج روسي حصراً، أدّت فيه الأوركرانية فالنتينا ليسيتسا الكونشرتو الثاني لرخمانينوف وأضافت من خارج البرنامج فالس لشوبان والرابسودي رقم 2 للِيسْت (في النسخة «المصَعَّبة» التي أنجزها هوروفيتز). باستثناء فالس شوبان، أداء ليسيتسا كان جيداً جداً، وروحها الطيبة كانت طاغية على أدائها خارج المسرح، إذ انضمّت إلى الجمهور للاستماع إلى باقي البرنامج، وما من حاضرٍ أخطأها بين الجَمْع: فارعة الطول وبثوب أحمر! في الجزء الثاني من الأمسية سمعنا افتتاحية 1812 لتشايكوفسكي و«رقصات» بورودين الشهيرة.
أمسيتان تلتا الثلاثية الافتتاحية وكانتا مخصصتَين لموسيقى الحُجرَة. الأولى فرنسية البرنامج والثانية نمساوية. مساء الأحد، اعتلى أشهر نجوم هذه الدورة، عازف الكمان الفرنسي رونو كابوسون، المسرح مع أصدقائه في مجموعة Trio Zeliha (كمان، تشيلّو وبيانو) وعازفة الفيولا، التي تحمل اسم آلتها في اسمها، فيولان ديبيرو، لأداء أعمال بتركيبات مختلفة للمؤلفين الفرنسيين فوريه (سوناتة للبيانو والكمان) ورافيل (ثلاثي للبيانو والكمان والتشيلّو) وفرانك (خماسي البيانو، أي بيانو ورباعي وتريات)، ومستوى التنفيذ كان، كما سيكون في الليلة التالية، ممتازاً، رغم الملاحظات الطفيفة. مساء الاثنين بدأنا من عند هايدن مع أحد ثلاثياته الكثيرة (رقم 29، في حين أشار البرنامج إلى الرقم 39، والأخير بالمناسبة هو أشهر أعمال المؤلف النمساوي في هذه الفئة) وتلاه ثنائي الكمان والفيولا لموزار، وهو واحد من عملَين كان قد كتبهما على عَجَل لصديقه المتوعِّك صحياً، شقيق هادين، لإنقاذه من ورطة في تسليم مجموعة من الأعمال لمُشغِّله، الأسقُف الفاجر العاهر المجرم المقيت الشهير كولوريدو. من النمسا القرن الثامن عشر، انتقلنا إلى القرنين التاليَين وسمعنا رباعي البيانو لمالر، وهو استثناء شكلي عند هذا المؤلف الذي لم يكتب إلاّ سمفونيات و”ليدر“ بمرافقة أوركسترالية، وبعده متتالية على الطراز القديم لكن بنَفَس معاصر (ونيو-كلاسيكي بجزء منه) للمؤلف الشهير كورنغولد. هذا العمل الجميل والمتماسك هو لآلتَي كمان وتشيلّو وبيانو. والبيانو مكتوب لليد اليسرى فقط (وهذا الأمر راج بعد الحرب العالمية الأولى على أثر فقدان عازف البيانو بول فيتغنشتاين يده اليمنى في الحرب، وقد خصّه كورنغولد بكونشرتو للبيانو، كما فعل بالأخص موريس رافيل، وكذلك سيرغي بروكوفييف وغيره). نجم هذا العمل كان عازف البيانو، الذي أتى أداؤه جيداً في الأعمال التي شارك فيها بالليلتَين، لكن هنا برزت قوّته وصموده لأربعين دقيقة سابلاً اليد اليمنى، ”المشلولة“ نظرياً فقط. أمّا نجمة الليلتَين معاً فكانت عازفة الكمان في الثلاثي، مانون غالي (Manon Galy)، التي وُضِعَت للمقارنة، وجهاً لوجه، وبشكل غير مقصود، أمام أحد أهم عازفي الكمان في العالم اليوم (كابوسون)، وقدّمت مساهمة متساوية في الأعمال التي جمعتهما (فرانك وكورنغولد). حتى آلتُها لم تكن بعيدة لناحية مستوى الصناعة عن آلة مواطنها، ومستقبل مانون لناظره قريب. نشير أن في الليلتَين لم يكن هناك إضافات من خارج البرنامج، وهذا يحصل عادةً في أمسيات موسيقى الحُجرَة.
أمّا بعد... الليلة تقدّم السوبرانو الروسية إيلينا ستيخينا أمسية مقتطفات أوبرالية و«ليدر» (أغنيات مستقلة)، إلى جانب عازف البيانو سامسون تسوي، الذي يفوق مستواه ما هو مطلوب من عازف مرافِق. كل المؤشرات تدلّ على قيمة عالية محتَمَلة في الأداء. بالمناسبة، آخر أخبار السوبرانو الجميلة صوتاً وقالباً أنها غنّت بقيادة فاليري غرغييف (من أهم قادة الأوركسترا في روسيا والعالم، وهو مُقَرَّب من الرئيس الروسي، وقدّ أهِين بكل الأشكال على مدى السنة المنصرمة). يا للهول! على لجنة «مهرجان البستان» أن تدين الأمر فوراً، وأن ترفع العلم الأوكراني بدلاً من اللبناني على مدخل الفندق، وأن تحرق الأعلام الروسية للتدفئة بدلاً من الحطب.
بعد الليلة الروسية أوبرالياً، أُخرى أيضاً روسية مخصّصة للبيانو المنفرِد (الأمسية الوحيدة من هذا النوع في الدورة الحالية) مع ألكسندر مالوفييف (2001) الذي كان أول عازف بيانو روسي يُطلِق عليه العالم لقب «الطفل المعجزة» منذ يفغيني كيسين (1971). من مالوفييف، نسمع «ضوء القمر» لبيتهوفن والسوناتة رقم 4 للسوفياتي/البولوني مييتشيسلاف فاينبرغ (الذي يحيي عالم الكلاسيك أعماله الكثيرة بعد عقود من النسيان النسبي) والسوناتة التي كتبها التشيكي ياناتشيك على أثر قتل أحد العمّال طعناً من الشرطة خلال مظاهرة مطلبية في أول تشرين الأول (أكتوبر) 1905 (والسوناتة تحمل هذا التاريخ في عنوانها وعنوان ثانٍ هو «من الشارع»). عمل فيه حزن وغضب وتوجّس، يليه عملان (impromptus) لعملاق البيانو الروسي تأليفاً، ألكسندر سكريابين، والسوناتة الثانية لرخمانينوف ختاماً… بعبارة أخرى، سيبدأ مالوفييف بمداعبة مفاتيح البيانو بنعومة تامة في بداية بيتهوفن وينتهي بـ«تدميرها» في نهاية رخمانينوف (هوروفيتز ملكاً هنا لمن يهمّه الأمر)، مروراً بحالات فرح وبراءة وحزن وثورة وجنون وألم وغضب وفوضى.