انطفأ أمس في دمشق شوقي بغدادي (1928- 2023) بعد صراع مع المرض، طاوياً سيرة مثقلة بالذكريات. فهذا الشاعر الدمشقي العتيق خبر حياة طويلة سجّلها بأحبار مختلفة. لطالما أبحرت سفينته في أكثر المياه عمقاً، من دون أن يصل إلى يقين، في تجوال طليق بين الشعر والقصة والرواية والصحافة والسجالات الثقافية. حنجرة غاضبة لم تتوقف يوماً عن الهتاف، وإذا به يؤرّخ لقرن مضطرب بكل أحلامه وخيباته وآماله. هكذا رسم خريطة شعرية شاسعة بمعجم إيقاعي صاخب وتبشيري إلى أن طعنته الهزيمة، فانكفأ نحو قصيدة تعتني بالروح والمشهديات اليومية، من دون سأم أو شكوى من «تكاليف الحياة». فسّر تحولاته المتعددة بقوله: «كثيراً ما أقوم بمراجعة مواقفي وأشعاري، فأسلك طريقاً مغايراً، أجده في وقته صحيحاً».
قادته النبرة الغاضبة في أشعاره إلى السجن أيام الوحدة السورية المصرية (بورتريه الشاعر بريشة ناديا داوود)

ويقول في حوارٍ معه: «هناك توق لا يصدّق لاكتشاف جمالية الأشياء الصغيرة. لقد أُنهكت من القضايا الكبرى في شعري، وأدعو أصحاب المآسي للانتباه إلى الحياة نفسها، بوصفها خزّاناً للفرح». لن نستغرب إذاً، أن يطلق على أحد دواوينه الأخيرة اسم «ديوان الفرح»، وعلى ديوان آخر اسم «شيء يخصّ الروح» معترفاً بأن هذه القصائد «كانت تتسرب من الخزّان طوال مسيرتي، لكن متطلبات الشعر لم تكن تسمح بفتح الصنبور لتتدفق المياه وتتحرر». ويضيف: «لا أكتب إلا عندما أكون قلقاً. ولا أُخدع بالمغامرة الشعرية التي تقطع الصلة بالماضي».
لم تعد الرايات الحمر التي رافقت أشعاره المبكرة تخفق في المنابر، فالخيبات لم تتوقّف يوماً، إذ قادته النبرة الغاضبة في أشعاره إلى السجن أيام الوحدة السورية المصرية، متأرجحاً بين إيديولوجيات متعددة، من دون أن يبلغ مرتبة نزار قباني في شعر الحب من جهة، وشعر سليمان العيسى في قطار العروبة من جهةٍ ثانية. الحياة المديدة لصاحب «ليلى بلا عشّاق» بدت مثل سفينة تُشرف على الغرق، وسط أمواج متلاطمة: «المهم أن ترى الحقيقة وتتجرأ على قولها مهما كان الثمن» يقول.
تخبرنا انتباهاته الجديدة إلى مزاج شعري آخر بتأثير العاصفة التي هبّت على البلاد، وجحيم الحرب، مستعيداً حنجرته الأولى في «جمهورية الخوف»، و«قبل فوات الأوان». عدا حضوره الشعري، التفت شوقي بغدادي إلى كتابة القصة والرواية مثل «درب إلى القمة»، و«بيتها في سفح الجبل»، و«مهنة اسمها الحلم»، و«المسافرة». في مرآة أخرى، كان صاحب «البحث عن دمشق» بمثابة خيمة نقدية احتضنت تجارب الأجيال الجديدة بروح رحبة، وشغف عال في رصد المشهد الثقافي عن كثب، فيما تعرّضت بعض مقالاته للمنع بسبب جسارتها النقدية. سيرة أدبية امتدت إلى نحو سبعين عاماً، فهو واحد من مؤسسي «رابطة الكتّاب السوريين» في خمسينيات القرن المنصرم، وهو أيضاً مخزن ثقافي متنقّل، وورشة شغف. يقول بأسى «اليوم لا أحد لديه الشجاعة للدفاع عن قصيدة، في ظل قانون التسليع الذي غلّف مظاهر الحياة برمّتها. الشعر فن ذاتي يحتاج إلى خلوة، وللأسف، فالخلوة لم تعد متوافرة». في آخر قصيدة كتبها قبل أسابيع، يرثي نفسه قائلاً: «أظلمتْ كلّها البحارُ وضاعت/ وجهةُ الريحِ والطريقُ الطويلُ». ووفقاً لأحد عناوينه الموحية «قلها وامشِ»، قال كلمته ومشى.