«بهذا العدد تختتم مجلة «بدايات» عامها العاشر. مطلع الانتفاضات العربية، التقى أربعة رفاق من مناضلي اليسار في لبنان - زهير رحال وغسان عيسى والراحل سليمان تقي الدين وكاتب هذه السطور – واتفقوا على إطلاق فصلية فكرية-ثقافية تشكل منبراً للإنتاج والتفاعل على طريق إعادة تأسيس وتوحيد اليسار اللبناني بما يرقى إلى مستوى التحديات التي فرضها انهيار الكتلة السوفياتية ودخول المنطقة العربية عصر العولمة النيوليبرالية وخروج لبنان من الحرب الأهلية. وقد رأوا في الانتفاضات العربية فرصة لا تُعوّض أمام اليسار لكي يبلور رؤاه ويعيد تأسيس قواه ويجدّد صلته بقواعده الاجتماعية.

انطلقت المغامرة بصدور العدد الأول في أيار (مايو) 2012 تحت شعار «بدايات لكل فصول التغيير». عهد المؤسسون رئاسةَ تحرير المجلة إلى كاتب هذه السطور»: بكلمات الرثاء هذه نعى الكاتب والمفكّر اللبناني فواز طرابلسي مجلة «بدايات» بعد سنين عشر كانت فيها المجلة من عددها الأول (شتاء/ ربيع 2012) منبراً لبلورة المشروع اليساري في العالم العربي وإعادة التأسيس الفكري لقواه وتياراته، فواكبت انطلاقة الثورات العربية كلحظة تأسيسية لتستلهم منها عنوانها ومحور عددها الأول «الثورات بشبابها»، منطلقةً في مغامرة شجاعة تفترض أن ثمّة مكاناً شاغراً للمجلات الدورية ولا سيما تلك التي تمتلك حمولة معرفية في زمن الوجبات الفكرية السريعة والجاهزة التي تقدمها صفحات وسائل التواصل الاجتماعي أو الكثير من صفحات الرأي في الصحف الورقية المحكومة في كثير من الأحيان بالتسرع أو الانحياز غير العلمي إلى منطق أو سردية سياسية وثقافية دون أخرى. حضرت الثورات الشعبية العربية إذاً في «بدايات» منذ العدد الأول بكل قاموسها ومفرداتها ومكوّناتها المختلفة: المرأة، الجسد، اللغة، الاقتصاد السياسي، البرامج السياسية والنتاج الفكري والفني، فطمحت المجلة في رؤيتها إلى أن تكون منبراً مفتوحاً للشباب الناطقين بشهاداتهم من قلب الميادين، وهو ما أعاد طرابلسي التذكير به في البيان الختامي: «كنا مقتنعين بأنه لا يزال يوجد مكان لمجلة فصلية ورقية تطمح إلى الانتشار العربي وتعيد الاعتبار إلى المجهود الفكري والثقافي غير المحكوم بالزائل والمتسرّع، يحدوها القلق والجهد لإنتاج المعارف، كما أعلنّا في تقديم العدد الأول. وقد التقطنا ما نبّهت إليه الانتفاضات الشعبية من تلازم بين الاقتصاديات النيوليبرالية والأنظمة الاستبدادية العربية، فعُنينا بإفساح المجال واسعاً لدراسة وقع النيوليبرالية وثقافة الاستهلاك على المجتمع والدولة والسياسة والثقافة في لبنان والعالم العربي. وفي الآن ذاته، أولينا أهمية خاصة للتعرّف إلى تجارب ونضالات شعوب «الجنوب الكوني» وحركاتها الاجتماعية والنقابية والسياسية في هذا العصر الجديد».
كانت فكرة تأسيس «بدايات» إذاً كما ألمح طرابلسي في إحدى مقابلاته مرتبطة بمشاريع متعدّدة بعد الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975-1990) لإحياء اليسار فكرياً ومعرفياً خاصّةً بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي. كما يمكن اعتبار المجلّة امتداداً لتجربةٍ سابقةٍ خاضها طرابلسي في تسعينيات القرن الماضي من باريس بالتعاون مع الراحل جوزف سماحة، تجربة تمثّلت في إصدار مجلة «زوايا»، التي تشبه «بدايات»، لناحية أنها مجلّة نقديّة تجمع السياسة والثّقافة والاقتصاد والأدب والبصريّات. أعلنت «بدايات» عن نفسها منذ انطلاقتها مجلّة علمانيّة، «تتّخذ من التّدبير السياسي للعلمانيّة مساراً لها، بمعنى فصل الدّين عن الدّولة، كما أنّها تركّز على دراسة العلاقات المتينة بين اقتصاديات النّيوليبراليّة والمشكلات الاجتماعيّة كالفقر والبطالة والغلاء والفساد، عدا كشفها التلازم بين هذه الاقتصاديات والأنظمة الاستبدادية. تُفرد للأدب والموسيقى والسّينما مساحةً خاصّة، فتخصّص لها أقساماً قائمةً بذاتها أكثر توسّعاً، وتحاول أن تمزج بين المواضيع اليومية/ الحياتية المعيشة وتلك التي تأخذ حيّزاً من الزّمان على اتّساعٍ أكبر. كما تسعى المجلّة إلى ردم الهوة بين الثقافة العليا والثقافة الشعبية» (بدايات: العدد الأول، ص 4).
كانت حصة الأسد في «بدايات» للانتفاضات العربية في موجتها الأولى (2011) والثانية (2019) وقد أفردت لها المجلة أكثر من عشرة أعداد، إلى جانب أعداد خاصة وملفات عن مقاومة الشعب الفلسطيني والنزاع العربي الإسرائيلي. في قسم «الذاكرة»، أفردت المجلة أعداداً خاصة لاتفاقية سايكس بيكو 1916، ومئوية تأسيس لبنان 1920 ومئوية الثورة الروسية 1917، وغيرها. وفي الفكر والنظرية، نشرت ملفات لأعمال كارل ماركس وروزا لوكسمبرغ ولنتاج المفكرين الإسلاميين علي شريعتي ومحمود طالقاني ومحمود محمد طه، وخصّصت ثلاثة أعداد لأبحاث ودراسات وتحليلات مستفيضة عن النيوليبرالية ومجتمع الاستهلاك في لبنان والمنطقة. القسم المحوري المسمّى «الملف» كان مرتبطاً بمناسبةٍ معيّنة أو بسياق ثقافي متصل بالحاضر، كالعدد المزدوج الثامن عشر والتّاسع عشر الذي صدر في مئويّة الثورة البلشفيّة، أو بشخصيّة مؤثرة كجون برغر، أحد كبار النقّاد الأدبيين، لمناسبة وفاته، وبرغر هو أحد الذين ساهموا في انطلاقة المجلّة، إلى جانب أبواب سياسية أخرى مثل قسم «الثّورات بشبابها» الذي اهتمّ بنشر كتابات الشّباب المعنيّ بالتغيير على الصّعد كافّة، سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة وأدبيّة وفنّية، بشكل يتجاوز مسألة حصر الثورات الشبابية في إطارها السياسي- الاجتماعي، بل نقلها إلى السّياق الفني- الأدبي-الإبداعي. حضرت في المجلة الفصلية التي كانت تصدر كل ثلاثة أشهر أبواب أخرى مثل «خبز وملح» الذي يعالج المسائل الاقتصادية، ومن أبرز مقالاته «اقتصاديات الحروب الأهلية: تحوّلاتها في سورية ولبنان» (العدد العاشر)، وبرز أيضاً قسم «كِتاب» المخصّص للحديث عن كتبٍ ليست بالضّرورة حديثة، إنّما وجد القيّمون على المجلّة فيها أهميةً راهنةً، ومن مقالاته: «هانس بلتنغ عن ابن الهيثم: فنّ النّهضة الأوروبيّة والعلوم العربيّة» (العدد الخامس)، وقسم «ذاكرة» الذي يُعنى بالمذكّرات وقراءة أحداث تاريخية وتحليلها، ومن مقالاته: «عمر فاخوري بين القومية واليسارية» (العددان الثامن والتاسع عشر). أما قسم «نون والقلم»، فهو القسم الأدبي في المجلّة، ومن مقالاته: «بحثاً عن البرابرة»، (الياس خوري/ العدد الحادي عشر)، وإنْ لم تنشر المجلّة مساهمات شعريّة، وقد برّر طرابلسي ذلك بأن «أحد أسباب ذلك أنّ الشّعراء كثر وعالم الدّخول والاختيار بين الشّعراء أمرٌ متعب لكل أسرة التّحرير، إلا أنها في الوقت نفسه لم تمتنع عن نشر الشّعر المترجَم الّذي يُعتبر ركناً أساسياً من أركان المجلّة»، فكان أن أفردت ملفاً مميزاً في مناسبة رحيل الشاعر العراقي مظفّر النواب (العدد الخامس والثلاثون). كما برز قسم «ثقافة الناس للناس»، وهي التّسمية الخاصّة في المجلة للثقافة الشعبيّة، وفيه موضوعات عن الشعر المحكي والشعراء الذين يكتبون بالمحكيّة. ومن مقالاته «الشّعر الشّعبي العاشق» (العددان الثالث والرابع).
قررت «مؤسسة روزا لوكسمبرغ» خفض مساعدتها المالية من 120 ألف يورو إلى 70 ألف يورو سنوياً


ركّزت المجلّة أيضاً على ثقافة العين والذائقة الفنية، فكان أن اهتمّت زاوية «يا عين» بالسينما والمسرح والرسم والنحت والغرافيتي وكل ما يمتّ إلى متعة العين الفنية بصلة، فكان أبرز مقالات هذا القسم «القرامطة» وهو سيناريو فيلم لعمر أميرلاي ومحمد ملص (العدد الثاني) أما قسم «نهوند»، فهو الزاوية التي تهتم بالموسيقى، إن لناحية النقد أو التّعريف بموسيقيّين وأعمالهم الموسيقيّة، فلم تنحصر الكتابات الموسيقيّة بنوع موسيقيّ واحد أو بحقبةٍ تاريخيّةٍ واحدة، بل تنوّعت من الطّرب إلى البوب والهيب هوب، فبرزت في هذا القسم مقالة بعنوان «عبد الحليم كركلا: تطوير الألحان التراثية على إيقاعات الجسد» (العدد الخامس عشر). وكذلك اهتمّت المجلّة بالتّرجمة لسببين: لأنّ «معظم الإنتاج المعرفي في المنطقة موجودٌ في الخارج، ولأنّ قسماً كبيراً من الكتّاب العرب يكتبون بالإنكليزيّة... على سبيل المثال، مساهمات الفلسطينيّين في العدد الخاصّ بفلسطين كانت بالإنكليزية، لذلك لا مهرب من التّرجمة، ولدينا مشروعٌ نعمل عليه وهو إقامة مؤسّسة فعليّة للتّرجمة». وبسبب اهتمام المجلّة الكبير بالتّرجمات، تعاونت مع مجلّة «غلانطا» السويدية لترجمة عددٍ من نصوصها التي صدرت ضمن عددٍ خاصّ أطلقته في السويد. لخّص طرابلسي في بيان على صفحته الفايسبوكية أسباب توقف المجلة بشكل واضح: «قررت مؤسسة روزا لوكسمبرغ خفض مساعدتها المالية من 120 ألف يورو إلى 70 ألف يورو سنوياً، من ضمن خفض طاول كامل موازنتها. هكذا اضطررنا إلى الاقتصار على الصدور ثلاث مرات، بدل الأربع لهذا العام وخفض علاوات العاملين جميعاً بنسبة أربعين في المئة وتقليص موازنتي الطباعة والترجمة. فبات بديهياً أنّ مثل ذلك المورد المحدود لن يسمح بالاستمرار، ونحن لم نوفّق بعد بمصدر دعم إضافي»، حاصراً المستقبل في خيارات ثلاثة: «تطوير إنتاج المجلة الورقية؛ البحث في الانتقال إلى الصحافية الرقمية؛ وفي حال عدم التوفق في الحالتين، اختتام عقد من هذه المغامرة، غير آسفين إلا على عدم التمكن من متابعتها»، خاتماً كلامه بالأمل في معجزة في الزمن الصعب: اللقاء في مواسم للتغيير واختراع «بدايات» جديدة.

* المراجع: أعداد مجلة «بدايات» ورسالة ماجستير (الجامعة اللبنانية) لسكرتيرة التحرير زينب سرور في «بدايات» بعنوان: «الخطاب الثقافي في الدوريات الثقافية في لبنان: مجلّتا بدايات وبقية الله».