في المعرض التكريمي الذي اختُتم منذ فترة في الصالة المخصّصة للمعارض في جامعة LAU (بيروت)، شاهدنا مجموعة إيلي كنعان (1926 ـــ 2009) التي تحتفظ بها عائلته، ذلك الفنان الذي شكّل حالة لونيّة مليئة بالحيويّة تستميل النظر، تثير المشاعر والانفعالات، وهي طبيعة لطالما جسّدها في لوحاته الزيتيّة الغنائيّة. تحمل ريشة كنعان نبضاً رقيقاً يرتبط عميقاً وأليفاً بالمنظر الطبيعيّ، بحيث يصعب على الناظر إلى لوحته تحييد عاطفته من فرط ذوبان الفنان في موضوعه، كالمتلذّذ بكأس من النبيذ يتجرّعها. للطبيعة في لوحة كنعان حضور بصريّ غنائيّ يغازل اللون ويتّحد به. علماً أنّ هذا الانطباع عن أعماله سائد منذ الستّينيات والسبعينيّات، العصر الذهبيّ لتيّار الحداثة التشكيلية في بيروت.

‏يختزل كنعان وصفه للطبيعة، فتلامس التجريد الغنائيّ من دون أي انخراطٍ كامل فيها، كأنّه يقف على مسافة خطوات من موضوعه مكتفياً بالانتشاء به. يتقدّم خطوات محدودة في فضاء المنظر ولا يتفاعل معه كحالة تشكيليّة جليّة الملامح، فيتلوّن بحالة من الإبهام الجميل والمجرّد. وهنا فرادة الفنان كنعان التي أفردت لنفسها مكانةً لدى الزوّار والنقّاد معاً في لبنان والعالمين العربيّ والغربيّ. وهو من فنانين قلّة احترفوا الرسم إبداعاً و«مهنة» تجلب له بعض المال والكثير من الشهرة، فالمقتدرون مالياً يسعهم شراء لوحته، وكذلك لقيت لوحاته رواجاً لطابع الغواية فيها، المدغدغة للعين والإحساس والذوق.
‏تتميّز أعمال إيلي كنعان بالمهارة الفنّية والتقنية وبتخصيب موضوعه (الطبيعة) إلى ما لا نهاية، حتى بدا كأنّه الوريث الشرعيّ لرسّامي المنظر الطبيعيّ ممّن سبقوه أمثال مصطفى فرّوخ وقيصر الجميّل. غير أنّه ينتمي إلى جيل حداثة انتشر بدءاً من منتصف القرن الماضي وتجاوز الواقعية والانطباعية نحو تجريديّة تضعه في قلب الحداثة واتجاهاتها المتنوّعة.
المعرض نظمه أنطوان كرم بدعم من عميدة كلية الفنون والعلوم في الجامعة كاتيا جنيناتي، لتثقيف جيل ناشئ مثقل بالأزمات وبوصف كنعان وجهاً مشرقاً للبنان في ذروة نهضة الحركة التشكيلية والثقافية في الزمن الجميل.
وُلد إيلي كنعان في بيروت عام 1926. منذ عمر العشرين، اشتهرت لوحاته لتميُّزها بألوانها اللافتة، ثم التقى مشاهير مثل الرسام الفرنسي جورج سير المعروف بجرأته اللونية وأسلوبه التكعيبي المتحرّر، وكان لذلك أثر في توجّهه نحو دراسة المنظر الطبيعي بالتبسيط والاختصار والتلطيخ اللوني. سمح له ذلك بالمثابرة في عمله، فاستعمل ألواناً مبهرة لكن بطريقة ممتازة. في عام 1957، أسهم كنعان في تأسيس «جمعية الفنانين» في لبنان مع قيصر الجميّل وسعيد أ. عقل، وحليم الحاج، وعمر الأنسي، ورشيد وهبي وجان خليفة، وتولى مهمات شؤونها الداخلية في المرحلة التي ترأسها الجميّل. وعام 1958، فاز كنعان بـ «جائزة اليونيسكو» وبمنحة دراسية لإكمال تحصيله الفني في فرنسا في «أكاديمية غران شويير». في تلك الفترة، ربطته علاقة صداقة مع جاك فيون، وإيف أليكس وغيرهما من كبار أسماء الوسط الفني الفرنسي. وفي باريس أمضى معظم وقته في استوديو حيث رسم لوحات كثيرة.
أمضى كنعان معظم أيامه يرسم ويسافر إلى نيويورك وساو باولو وبلغراد وموسكو والإسكندرية مستلهماً مشاهد لوحاته. في عام 1967، فاز بـ «جائزة فاندوم» التي كرّست تقدير أوروبا له. وكتب عنه هنري سيريغ، مدير المتاحف الفرنسية: «إنّ نجاحه في التأليف الأوركسترالي للألوان ليس مردّه التعابير الصادرة عن موهبة الفنان فحسب، بل هي نتيجة بحثه الطويل الموجّه دوماً نحو الجمال». وعندما عاد إلى بيروت، علّم الرسم بين الجامعة اللبنانية و«الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة».
عُرف كنعان بالرسم الدقيق والتطبيق الصائغ وكقائد لأوركسترا الألوان. ففي لوحاته نبضات الحياة والموت والفرح والخوف، وعين مفتوحة ومترقبة للأمل، ولا سيما أعماله الأخيرة مستوحاة من الجبل اللبناني. ذلك كلّه أعطى رسوم كنعان الطابع الذي يستحيل تفسيره. فهي ميزة كأعمال كبار الرسامين، وصالحة لكل زمان ومكان.