مثيرة لعبة القدر كم هي حذقة في الاستدراج والإيقاع؛ فهي تتواطأ، أحياناً، في حُفرٍ في حَدّ البوح بالمآلات؛ فهي لا تني في بعث الإشارات الواحدة تلو الأخرى في تناغم خفي، لا يفقه جَرسَه إلا من أرهف السمع واسترقّ همسات الروح، وحُبيَ بمهارات فك الشيفرات ودراية تطويع الأحاجي.والأقدار لا تأنس إلاً بمن كان لديه حِسّ الاستشعار والتلقّي، فهي لا تعبأ بغير التوّاقين للنجاح و المحظيّين بموهبة الكشف والإبداع، والموطّني النفس لخوض تجربة النجاح وحياكة سني العمر بخيوط الفرص السانحات، وتعاقب الإشارات وتواليها كادت تبوح بالمقّدر والمرسوم، بل كأنها كانت تخطّ طريق المستقبل العلمي وفضاءاته. الإشارة الأولى لاحت حين خُيّر الراحل عبد الأمير الصبّاح بين أماكن ثلاثة متباعدة بالالتحاق بأحد فروع الشركة –الألمانية- التي يعمل فيها، بعدما ساءت الأوضاع في لبنان أثناء حرب السنين 1975- 1976، وكانت طهران أحد الأماكن المقترحة، فسارعت دلال عبّاس مؤلفة «أيّام مئات في إيران قبل الثورة»: (دار الأمير ــ بيروت 2022) إلى اختيار العاصمة الإيرانية، ولسان حالها يقول: «وجدتُها».
لقد تضافرت الرغبة القويّة في متابعة الدراسة الأكاديمية مع فتح باب التسجيل لطلبة الدكتوراه في الجامعة اللبنانية للمرة الأولى في تاريخها، مع انسداد أفق مواصلة التعليم في لبنان أثناء الحرب، فضلاً عن بذرة حب اللغة الفارسيّة التي غرسها الراحل أحمد لواساني في سنوات الإجازة الجامعية.
الانجذاب إلى الهدف واللهفة إلى الوصول أحالا عناء السفر بالبر، والإجراءات البيروقراطية على الحدود العراقية – الإيرانية. ويتوالى انسلال خيوط القدر، فيسوق إلى الكاتبة فتاة إصفهانية مع مجموعة طلاب في مكان إقامتها في طهران، وبكثير الفخر والتشويق تسرد تلك الفتاة حكاية ذلك العالم العامليّ الذي أحال مدينة أصفهان (عاصمة الدولة الصفويّة) إلى مفخرة وطنية، لكثرة ما قدّمه من إنجازات استثنائية ترقى إلى مستوى المتخيّل بل الأسطوري؛ فهو لم يكن فقيهاً وفيلسوفاً وشاعراً ولغوياً فحسب، وإنما مهندسٌ ومبتكرٌ متجاوز لحدود علوم عصره.
والكاتبة، التي لم تكن على دراية بهذه الشخصية الاستثنائية، كون المناهج اللبنانية مناطق، لم تولِ المناطق التاريخية التي ضُمّتْ إلى الجبل في ما عرف بلبنان الكبير 1920 أيّ رعايةٍ أو اهتمام.
لقد كان حديث الإصفهانية، في ذلك الوقت، بمنزلة الإيحاء الخفي بضرورة اختياره موضوعاً لأطروحة الدكتوراه؛ فكانت تلك الالتماعة التي انقدحت في عقل الكاتبة مبدّدة ظلمة الحَيْرَة وكاشحةً غموضَ الخيارات.
لقد كان بهاء الدين العاملي ذا جاذبية استثنائية لم تقوَ الباحثة على مقاومتها؛ كونه علماً ينحدر من جبل عامل التي تحب، ومهاجراً لم تُعقْه الغربة عن إخراج مواهبه وطاقاته من دائرتي الاستعداد والإمكان إلى مسرحي الفعل والإبداع.
وجاذبية بهاء الدين لم تقف عند المشترك الوطني (المناطقي) فحسب، بل عناصر الدهشة والاندهاش فيه تجعل أي باحث معاصر عاجزاً عن مقاومة أوجه الفرادة في هذا العالم الكبير الذي تجاوز عصره وبزّ أقرانه، فكيف إذا كان معاصرًا مرحلةَ التحولات الكبرى في التجربة الصفوية.
ومن محاسن الفرص، أيضاً، أن يتزامن وصول الباحثة إلى طهران مع تهيؤات لمرحلة انتقالية جديدة بين نهايات حكم الشاه محمد رضا بهلوي وتباشير ثورة تاريخية فريدة بقيادة الإمام الخميني؛ وقد ساهمت عوامل عديدة في إمداد الكاتبة بالمعلومات التي كانت تستقيها من مصادر مختلفة على الرّغم من خطورة تداول الوقائع السياسية في ظل الحكم البوليسيّ الصارم.
لقد قُدّر للباحثة أن تكونَ شاهدةً على قوة النفوذ الغربي والإسرائيلي وعلى الفجوة الواسعة بين فئات وطبقات الشعب الإيراني، والتي كانت تختزلها صورة الحياة في شمال وجنوب طهران، فضلًا عن حجم النفوذ البهائي، الذين أفرزت لهم مساحة وافية للتعريف بهم لجهة أصل التسمية والمعتقد والهوى السياسي، وكيفية إقامة محفلهم في مدينة حيفا في فلسطين المحتلّة، وعلاقتهم بالصهيونية. (ولا أخفي، هنا، مقدار الفائدة الشخصيّة ،خصوصاً لغز وصولهم إلى فلسطين، وإقامة محفلهم فيها، والذي كان موضع تساؤل دائم لديّ).
بالعودة إلى موضوع الأطروحة، تعبّر الباحثة عن سعادتها جراء تيسّر الكم الكافي من المراجع والمصادر والمخطوطات التي تتناول حياة الشيخ بهاء الدين العاملي، وهو الأمر الذي يقلق، عادةً، أيّ باحث، خصوصاً إذا كان موضوع البحث يتناول شخصية غير معاصرة، وهذا يندرج في باب التوفيقات الخفيّة.
وقد أتيحت للكاتبة، يومذاك، فرصة تلمّس اتجاهات التغريب والتيار الشوفيني المعادي للعرب والقضية الفلسطينية ومقاومتها.
لقد أضاءت عبّاس على الدور المؤَثّر لكل من الشهيدين علي شريعتي ومرتضى مطهري في إبراز البعد القيمي والثوري للإسلام انطلاقاً من تجربة الإمام علي والنهضة الحسينية فضلًا عن شخصية السيدة الزهراء ودورها الاستثنائي كأنموذج للمرأة المسلمة.
وكان لإعادة القراءة للتجربة الأولى مغزاها في الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، إزاء ما كان يروَّج من مقولات قوميّة تدعو للعودة إلى الحقبة الساسانيّة وعدّ فتح المسلمين لبلاد فارس عدواناً على الأمة الفارسية وطمسًا لهُويّتها الحقيقيّة.
وقد عكست الدعوة إلى إحياء الحضارة الفارسية نهج البهلويّيْن ومثقّفيهم، الذين دأبوا على إشاعته والترويج له لإحداث نوع من الإزاحة الحضاريّة، تماماً كالدعوة إلى الفرعونيّة في مصر، والفينيقيّة في لبنان، وفيها محاكاة لتجربة كمال أتاتورك في تركيا. ولذلك كان للمعركة الثقافيّة التي خاضها الثوريون لتثبيت الهوية الإسلامية مغزاها الذي يتعدّى السياسة الظرفية إلى ما هو أبعد وأخطر.
بيد أنّ هذه المعركة لم تكن تخاض من دون أكلافٍ، فكان على الذي يدخل في أتونها أن يوطّن النفسَ لدفع الثمن في ظل سياسة كمّ الأفواه، الذي يبدأ بالملاحقة والسجن، وقد ينتهي بالاغتيال، كما حصل مع النخبة الثورية التي زُجّت في السجون أو تلك التي تمّت تصفيتها كالدكتور علي شريعتي.
إقامة الباحثة في طهران في تلك المرحلة المفصليّة، مكّنتْها من أنْ تجريَ مقارنةً بين ما كانت عليه إيران الشاه في سبعينيات القرن الماضي، وما آلت إليه الأمور بعد انتصار الثورة العام 1979، وهذا ما نضحت به سلسلة الملحقات في الشطر الثاني من الكتاب.
فالكلام على واقع إيران قبل الثورة، الذي عاينته عبّاس من قرب، قابله كلام على الوجه الجديد لإيران بعد الثورة من خلال سلسلة الأبحاث التي أنجزتها المؤلفة.
لقد رشح عن أبحاث صاحبة الكتاب فيض من العاطفة والانجذاب لهذه الثورة الفريدة في تاريخنا العربي والإسلامي، خصوصاً لدى تناولها العلاقات الثقافية بين إيران وجبل عامل، فقد أدّى علماء جبل عامل وفي مقدمهم المحقّق الكركي، دوراً حاسماً في رسم التوجّه العام للتشيّع بعدما كانت إيران الصفوية تنزلق في متاهات التقوقع من خلال بعض الاتجاهات الصوفيّة أو الأخبارية المغلقة.
ولطافة المقاربة التاريخيّة أنها مرحلة التبادل الثقافي؛ فكان التأثير العاملي في المرحلة الأولى طاغياً (المرحلة الصفوية) بينما كان الحضور الإيراني في مرحلة ما بعد الثورة هو الأقوى والأشمل، خصوصاً في مجالي المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي والثقافة السياسية.
لقد قدّمت دلال عبّاس التجربة والمشاهدات بلغة جميلة ومتينة تأسر القارئ الذي يمسي إزاءها منشداً لمعرفة الوقائع خصوصاً في الجزء الأول من الكتاب، الذي اختارته ليكون عنوان الكتاب، وهو على الرغم من حيزه الزماني والمكاني ينمّ عن خبرة عميقة في فن السرد والرواية.
--
* أستاذ في الجامعة اللبنانية