طُلب مني أن أكتب عن السنة التي تطل علينا برأسها، سنة 2023. ولم أكن أعرف ما الذي سأكتبه في مناسبة إطلالتها. فلديّ مشكلة في كتابة المناسبات: ينعقد لساني، ويقفل دماغي بابه حين أكتب عن مناسبة ما. كما أنه لا اهتمام لي أصلاً ببدايات الأعوام ونهاياتها. لا أحتفل بعيد ميلادي، ولا بالسنة الميلادية أو الهجرية ولا بالنوروز. وفي الحقيقة ليس لي عيد ميلاد. فعندما كنت أتحضّر لامتحان الإعدادية تبعاً للنظام الأردني القديم، اكتشفت أنه ليس لي اسم في السجلّات المدنية. فحين كان يولد طفل في القرية، يذهب والده إلى المختار ويخبره بمقدمه، فيسجل المختار اليوم والتاريخ في دفتره الكبير، ثم يرسل دفتر المواليد هذا في نهاية العام إلى المدينة. لكنّ المختار نسي أن يسجل اسمي وتاريخ مولدي. لهذا فليس لديّ تاريخ ميلاد. لديّ تاريخ ميلاد «مزيف» أو قل تاريخ «حلف يمين». وفيه يذهب الوالد إلى المحكمة ويحلف يميناً بأن ابنه ولد سنة كذا، بأَمارة كذا وكذا، فيقبل القاضي بذلك، ويعيّن تاريخاً على هواه في هذه السنة ليكون تاريخ ميلاد الولد الذي نسي يوم مولده. وهكذا حصل معي ومع والدي. بذا فعلاقتي بالسنوات، ببداياتها ونهاياتها، ليست طيبة أبداً.
يزن أبو سلامة ــ «سُلَّان «رجال في الشمس»» (حبر وباستيل على ورق ـــ 55 × 68 سنتم ـــ 2020)

لكنني قلت لنفسي، ربما أمكنني الدخول إلى سنة 2023 من خلال الرقم 23 فيها. فقد كان يفترض أن تكون إسرائيل غير موجودة في هذا العام بناءً على نبوءة الشيخ بسام جرار، التي شغلت الناس العاديين عندنا. فانطلاقاً من نظرية الإعجاز الرقمي في القرآن، توصّل جرار إلى أن إسرائيل ستنتهي عام 2022. لكن لعبة الكوتشينة الخاصة بجرار لم تصدق، وإسرائيل لم تمت. وهي في ظني باقية لسنوات أخرى، لكنها ليست سنوات كثيرة في اعتقادي. فهي ستأكل نفسها بنفسها إن لم نأكلها نحن أعداءَها. غير أن الشيخ جرار سلّى قسماً كبيراً من الشعب بنبوءته طوال عدة سنوات، وعلى الأخص طوال سنة 2022. وتسلية الشعوب هي الهدف الآن عند الاتجاهات الدينية.
مع ذلك، فإن الرقم 23 يمثل لي شيئاً ما. فقد كان من المفترض أن أموت قبل ثلاثة وعشرين عاماً بالضبط. ففي عام 1999، شخصت بأنني مصاب بسرطان القولون. لكن الذي حصل أن الأطباء قصّوا لي جزءاً من أمعائي الغليظة، ورموها ورموا السرطان معها، فنجوت وعشت.
وقد بدا لي بعدها أن الله كان بهذا يمنحني وقتاً إضافياً من أجل أن أنجز مهمات ما. لذا أغرقت نفسي في الشغل. توقفت عن كل شيء، وتركت الناس ومشاغلهم ورائي، وركّزت على الكتابة، على الشغل، ولا شيء غيره.
غير أنني لم أكن متأكداً تماماً من المهمات المطلوبة مني. حاولت جاهداً أن أتبيّنها، وأن أنجزها بكل ما استطعت من همّة. كنت أحس أحياناً أنني عرفت هذه المهمات. لكن في أحيان أخرى، يصيبني الشك حولها، فأتشتّت وأتشوّش، وأركض مسرعاً من هنا إلى هناك، من هذه المهمة إلى تلك. ثم أنام وأنا أدعو الله أن يدلني على المهمات التي أرادها مني. لكن يبدو لي أنه أعطاني الوقت، ثم ترك لي كي أتكهّن بما أراده مني تكهناً.
كنت أقول لنفسي أحياناً: أنا شاعر، والله يريدني أن أكتب شعراً جميلاً. هذه هي مهمتي. ويصيبني هوس الكتابة الشعرية. أكتب كل يوم. أكتب كل ساعة. أفكر شعراً وآكل شعراً. وأحاول أن أنقّي ذاتي، وأن أوقف تشتتي، كي أنجز المهمة على أكمل وجه.
لكن في لحظات أخرى، يُهيَّأ لي أنّ الله عهد إليّ بأكثر من مهمة في وقت واحد، وأن عليَّ أن أركض وراءها كلّها في اللحظة عينها. لذا، فأمامي على الشاشة مشاريع لعشرة كتب على الأقل. أنتقل من هذا إلى ذاك. وحين أغرق في واحد، يصيبني شعور بالذنب على إهمالي المهمات الأخرى.
لديَّ تاريخ ميلاد «مزيف» أو قل تاريخ «حلف يمين» وفيه يذهب الوالد إلى المحكمة ويحلف بأن ابنه ولد سنة كذا


وهكذا، أضيع بين المهمات. أعرف بشكل مؤكد أنها مهمة حربية، وأنها تتعلق بالكتابة، وأنّ عليّ أن أنجزها. لكنني لا أعرف أين تقع هذه المهمة بالضبط. لذا أنتقل من الشعر، إلى الميثولوجيا، إلى الأديان، إلى تاريخ فلسطين، إلى النقوش، إلى تاريخ اللغة العربية، إلى غوامض القرآن، إلى معتقدات العصر الحجري... إلخ. أركض كما لو أنّ أحداً يجلدني على ظهري ويصرخ بي: ألم أقل لك اركض؟ لقد أعطيتك وقتاً مستقطعاً، وعليك أن تدبّر أمرك فيه. عليك أن تركض. اركضْ، اركضْ. وأنا أركض في الوقت المستقطع. أقلب كل حجر وأرى ما تحته. لكنّ الحجارة كثيرة جداً.
في كل حال، عليّ أن أستقبل السنة القادمة بكلمات ما. فهذا ما طُلب مني. وأريد في الحقيقة أن أستقبلها بمودّة. لم أكن من قبل أهتم بالسنة الجديدة ولا بالسنة الفائتة. كنت أهتم فقط ألا أخطئ في كتابة التاريخ حين تحلّ السنة الجديدة. كنت أمضي الشهر الأول من السنة الجديدة وأنا أؤرّخ بالسنة القديمة. أي أنه يلزمني في العادة شهر كامل لكي أعتاد السنة الجديدة. كأنني غير راغب في توديع السنة القديمة، وغير راغب في رؤية وجه السنة التي تليها. لكن عليَّ أن أقول إنني لأول مرة منذ سنوات طويلة جداً أشعر بأن هذه السنة ربما تكون سنة خير. فالعالم يتغير، يتغير بشدة، والذين أذاقونا مرّ العذاب يهيمن عليهم الشك وانعدام اليقين مع مقدم السنة الجديدة. وهم يخشون بأن دولتهم (إسرائيل) ربما لن تكمل عقدها الثامن. وأنا ميّال إلى أن خشيتهم لها ما يبررها.
من أجل هذا، فأنا أرفع قبعتي عن رأسي، وأرمي بها عالياً نحو السماء، محتفلاً بالسنة الجديدة، سنة 2023. فهي السنة التي يبدو أنها ستحمل لنا أملاً جديداً.

* شاعر وباحث فلسطيني