أرتدي بنطال جينز أزرق وقميصاً رمادياً ينسدل فوقه، وأنتعل حذاءً مريحاً للقدمين، وأجمع شعري الطويل في ضفيرة مكتنزة ترتمي فوق رقبتي.أحبُّ بيروت في أيلول، غيوم متناثرة في السماء، تفلت منها الشمس بين حين وآخر، هواءٌ خفيف الهبوب، ورائحة البحر تغري بالذهاب إليه، لكنَّ دبَّابات العدوِّ الإسرائيليِّ المحتلِّ تحاصره، ولن يطول حصارها.
يعود المصطافون، في مثل هذه الأيام، من ضيعهم الجبلية إلى بيروت، ويملؤون بيوتها وشوارعها، وتفتح المدارس والجامعات أبوابها لتلامذتها وطلابها، فتمتلئ المكتبات بهم وبذويهم، وتعود حياة المدينة نشطةً صاخبة. لكن بيروت، الآن، مختلفة، ليست هي، تبدو لي متحفِّزة، تتهيَّأ للوثوب، السيارات قليلة، تمرُّ مسرعة كأنَّها هبوب ريح، المارَّة قلَّة، يمشون مسرعين، يتلفَّتون حواليهم، وترتدُّ أعينهم الغاضبة بسرعة. يرون آليَّات العدوِّ تربض في مداخل الشوارع وزواياها كأنَّها وحوش كئيبة، في فتحات الدبَّابات والمصفَّحات رؤوس من معدن قاتم، رؤوس ثابتة لا تتحرَّك، خلف هذه الآليات الحديدية يختبئ مرقَّطون يشهرون بنادقهم. أطفال ينظرون إليهم من بعيد، في هذا الشارع وذاك.

ملصق من أدبيات «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» 1982.

دقَّ قلبي دقّاتٍ سريعة. سمعت صوت الشاعر محمد علي شمس الدين، في إحدى أمسياته: «فلتفتح، يا آذار، شبابيك التيه/ لي طفل يبحث عن لعبته في قبر أبيه».
كان ذلك في اجتياحٍ سابق، ارتكب فيه العدو الصهيوني مجازر كثيرة، وها هو، في اجتياحه هذا، يرتكب الكثير من المجازر، وهذا ما فعله منذ زرع المستعمر الغربي كيانه في قلب وطننا، كأنَّه وحشٌ لا شَغْلة له إلا القتل والتدمير. والآن ماذا يريد أن يفعل، وأين سيرتكب مجزرته؟ المقاومون الفلسطينيون خرجوا. ودَّعناهم، وكان تهجيرهم هذه المرة التهجير الثالث، وبقي المدنيون في مخيَّماتهم، عُزَّلاً من السلاح، من يحميهم من الصهاينة المحتلِّين، ومن أدواتهم المحلِّيين؟ في الاتفاق الذي أُبرم مع الوسيط الأميركي، تعهُّد أممي وأميركي بحمايتهم، ولكن متى كان الصهاينة وأدواتهم يحترمون الاتفاقات، وينفِّذون التعهُّدات؟
بقيت أمشي، وأحكي مع نفسي. أكاد أسمع صوتي. هدوء وصمت يخيِّمان. نترقَّب ويترقَّبون...، لن يطول الانتظار، قلت في نفسي، وصمْتُ بيروت لن يطول، أنظر إلى أعلى، ها هي مدينتي تتكلَّم، أرى صوراً لجمال عبد الناصر تطلُّ، وأقرأ شعارات: بيروت لا تركع. إلى المقاومة والتحرير، التحرير آتٍ... آت...
في الملجأ، كان «الأستاذ» وثلاثة شباب يجلسون على الأرض، ويتحدَّثون. رحَّب بي «الأستاذ»، وقال للشباب: الفتاة التي حدثتكم عنها. تنضمُّ إلى خليَّتنا، وتكون مفاتيح المستودعات وعناوينها التي أعطاني إيَّاها قائد الحرس، في مركز الأبحاث، قبل أن يرحل، معها، فهي أقلُّ عرضة للتفتيش منَّا. المستودعات، كما أخبرني ذلك القائد، فيها ما نحتاج إليه من رشاشات وقذائف. قال لي: هي لكم، لا تدعوها تصدأ. فقلت: لن تصدأ، السواعد في انتظارها. أعطاني كيساً صغيراً من القماش، وقال: المفاتيح والعناوين، في هذا الكيس، خبّئيه بمعرفتك، وانتظري اتصالنا بك، والآن عودي من حيث أتيت.
عدت إلى البيت، وسمعت الدعوة إلى حمل السلاح، وقيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وانتظرت الاتصال الذي لم يتأخر. بدأنا نستعدُّ للقيام بالعملية الأولى. وحدثت الفاجعة، وصرت أقرأ في الصحف:
حاصر جيش العدوِّ الإسرائيلي المحتلّ مخيَّمي صبرا وشاتيلا، وأحكم حصارهما. في الجوِّ طائراته، في البحر بوارجه، في الشوارع دباباته وجنوده. طوَّق المخيّمين من جميع الجهات، سلَّط أضواء الكشافات على الأزقة الضيقة والبيوت الواطئة، وأكواخ الصفيح، وأدخل عملاءه إلى الناس المتعبين المطمئنِّين إلى الضمانات الأممية والأميركية. توحَّش العملاء. بحراب بنادقهم وسواطيرهم قطعوا أعناق الشيوخ والنساء والرجال والأطفال، بتروا الأرجل والأيدي، فقؤوا الأعين واقتلعوها، بقروا بطون الحوامل، وانتزعوا الأجنَّة منها، كوَّموا الجثث تلالاً، ظلُّوا يفعلون ذلك طوال ليلٍ، وثلاثة أيام بلياليها ونهاراتها، ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمئة، لبنانيون وفلسطينيون مدنيون، صاروا جثثاً، والجرحى آلاف ظلُّوا مرميِّين ينزفون ويئنُّون، عشرات لجؤوا إلى مستشفى عكا القريب من أمكنة المجزرة، لحقت بهم السواطير، وقطَّعتهم، قتلوا الجرحى والمرضى والممرضين والممرضات وأطباء وطبيبات...
كيف الدخول إلى المخيَّمين ومساعدة الباقين؟ سألته. أجاب: نتطوَّع في الدفاع المدني. دخلنا مع إحدى الفرق. الجدران مدمَّاة. تفوح منها روائح القتل والموت. روائح نتنة غريبة قويَّة. احتمينا بالكمَّامات، وبقينا نضع أكفَّنا على أنوفنا. حرارة الشمس تكاد تكون حارقة. الذباب يتطاير أمامنا، يطنُّ ويحوِّم، ولا يغيب، تنكشف أمامنا بقع دماء، لم تجفّ الدماء التي تحوَّل لونها إلى أشلاء وقطع لحم صغيرة متناثرة، ألوانها متغيِّرة متداخلة. جرذان كانت تقرضها، رفعت الجرذان رؤوسها، نظرت إلينا، ولم تتحرك، كأنَّها ألِفت المكان، واستطابت مذاق اللحم البشري، كدنا ندوسها، فتمايلت، ومشت. حجارة البيوت المدمَّرة تكاد تسدُّ طرقات الأزقَّة الضيِّقة. فرق الدفاع المدني تحمل ماءً وأدوية وفرش إسفنج وأدوات منزلية...
تخرج امرأة إلى الفرقة التي تجمع الجثث لتدفنها، من غرفةٍ بابها مخلوع ومرميٌّ جانباً. شعرها منفوش، وجهها مبلَّل بالدموع، ثوبها مدمّى... قالت والغصَّة تكاد تخنقها: اقتلعوا الباب. رموه الى الخارج. انهمر الرصاص. أطفالي كانوا نائمين، انتفضوا، صوَّتوا، رفعوا رؤوسهم، وظلُّوا نائمين يسبحون في دمائهم. كنت أتوجَّه إلى المطبخ لأعدَّ طعام العشاء لزوجي الممرض في مستشفى عكا. لم يعد زوجي... لم أقبل أن يُقبر أطفالي في المقبرة الجماعية. أريد أن يبقوا معي هنا... ادفنونا هنا في قبر واحد، أرقد في وسطهم، أحضنهم... أطال قائد الفريق الحديث معها.
جاءت فتاة ممزَّقة الثياب، قالت: أنا أخبركم، كما طلبوا منِّي...، قتلوا أبي وأمي وإخوتي، وقالوا لي: لم نقتلك، لتبقي حزينة، طوال عمرك، ولتخبري...، أنا أخبركم... ماذا أنتم فاعلون؟
تجمَّع الناس، نساء، أطفال، فتيات، شيوخ... حكوا: طفل قطعوا أطرافه ورأسه... جرافاتهم هدمت البيوت على سكانها الأحياء، وضعوا شباباً في براميل، أفرغوا فيها الوقود، وأشعلوها، ودحرجوها...
بقي نبيل يحدث امرأة تمسك بما تبقَّى من ثدييها. كانت تحكي له حكاية دخول ثلاثة مسلحين عليها... لم أستطع سماع بقية الحكاية، مشيت مع رفاقي في الفرقة، وقصدنا المقبرة الجماعية. قال عجوز يقلّب الأكفَّ التي لم يغطِّها التراب: دُفعت الجثث الكثيرة المتراكمة الى حفرة واسعة حفرتها الجرافات على عجل، أنا أبحث عن ابني وابنتي وأولادهما، ابني...، في كفِّه خاتم أهديته إيَّاه عندما عدت من الحج...
الذباب يتطاير، ويحوِّم. تبدو رؤوسٌ وأكفّ، لا تزال جثث مرمية لم تتسع لها المقبرة. جثث كاملة، وجثث انتزع منها الرأس أو اليد أو الرجل...، جميعها منفوخة، متعفِّنة، بدأ الدود ينبت فيها، ويباشر التهامه لحمها. العجوز محنيُّ الظهر، وقف. مشى كأنَّه يحبو. ثم جلس على الأرض. بكى. مدَّ يديه المعروقتين إلى تراب المقبرة، ونشج: ما ذنبكم، يا أصحاب الأخدود !؟ وظلَّ يردِّد: يا أصحاب الأخدود، الوحوش لم ترحمكم. وعندما اقتربت فرق لتسحب الجثث، خاطبهم بصوت ضعيف: ابني وأولاده، ابنتي وأطفالها، أريد أن أراهم، وأموت، قتلوهم بالفؤوس، المجرمون كانوا يضحكون، وهم يتبارون في توسيع الفتحات في الرؤوس، كنت أرتمي عليهم، فيركلونني، ويقولون: نريد أن ترى بأسنا، وتموت حسرة، يا عجوز النحس...
تابع المسعفون سحب الجثث. الجثث المدفونة تتحلَّل بسرعة، يصعب سحبها. الرائحة الغريبة قوية. لم تنفع الكمامة، فوقفت جانباً، والدموع تفيض من عينيَّ.
حاصر جيش العدوِّ الإسرائيلي مخيَّمي صبرا وشاتيلا، وأحكم حصارهما


جاء «الأستاذ» مسرعاً. راح يعمل مع فريق الدفاع المدني في رفع التراب، ويقول لرفاقه: برفق...، برفق... وفجأة، وقف الى جانبه مرقَّط، يشهر بندقيةً يلمع نصل حربتها تحت أشعة الشمس. أمسكه من كتفيه، وأداره إليه. هرعت إليهما. سمعت المرقَّط يقول لـ«الأستاذ»: أنت الأستاذ نبيل عامل، ماذا تفعل هنا؟ فقال له: كما ترى، أعمل مع الدفاع المدني. قال: مكانك ليس هنا، نحن بحاجة إليك. وتأبَّط ذراعه، وشدَّه، ومشى به. صرخت: لا. لا. نظر إليَّ المرقط، وجَّه حربة بندقيته إلى وجهي، وقال: لا تصرخي، أو أشوِّه هذا الوجه الجميل. بدا لي رأسه مثل قنفذ منتفض. تراجعت، ورأيت «الأستاذ» ينظر إليَّ، وهو يبتسم، وسمعته يقول لي: لا تخافي، سمعان زميل قديم... جاء مسلَّحون هائجون. قال لهم «القنفذ»: نبيل يعرف ما يجب عليه أن يفعله. مشيا، والمسلَّحون يحيطون بهما.
ثقل صدري، ونبتت أشواك، في عينيَّ، وازداد إصراري على القيام بالعملية التي خطَّطنا لها، وعلى الاشتراك في تنفيذها، وهذا ما فعلته... ثم قامت فرقتنا بعدة عمليات أخرى، وهذا ما فعلته فرق أخرى...

(*) رواية «المصيدة» متوافرة ضمن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»