كما كان الفضل لأوبريت «الليلة الكبيرة» في تعريفي وتعلّقي بشاعر العامية الأسطوري صلاح جاهين، فإن الفنان سيد مكاوي الذي غنّى قصيدة «مسحراتي» لفؤاد حداد التي ارتبطت من جهة بشهر رمضان في مطلع الثمانينيات، كان له الفضل الأكبر للفت انتباهي ومنحي الفرصة لتأمل جماليات شعر فؤاد حداد. وكان أثرها أكبر بكثير من قصيدة «الأراجوز» كما شاعت بسبب الفيلم الذي لعب بطولته عمر الشريف وغنّى فيه هذه القصيدة. لكن في الحقيقة، استغرق الأمر وقتاً طويلاً بالنسبة إلي حتى تمكّنت من إزاحة الغشاوة التي خلقتها أشعار وقصائد صلاح جاهين ــــ الذي ارتبط عندي بكونه مبدع الفلسفة الوجدانية الشعبية المصرية ـــ عن عيني وتسبّبت في عتمة موقّتة عمتني عن رؤية قصيدة فؤاد حداد. ولست أدري لماذا وجدت في قصائد فؤاد حداد حين شرعت في قراءتها ما جعل مقارنتي المبدئية بين جاهين وحداد تنحاز إلى الأول باستمرار.
ربما يعود ذلك الجانب العاطفي المنحاز إلى جاهين بداية لـ«الرباعيات» التي كنا نحفظ الكثير منها عن ظهر قلب، طوال فترة الدراسة الجامعية وما بعدها، وأيضاً لتعرفي إلى ابنه الشاعر الجميل بهاء جاهين، الذي كنت ألتقيه باستمرار، ولسنوات طويلة، في كافتيريا الطابق الرابع في «الأهرام». كما أنه سيدير القسم الثقافي الذي أعمل به في «الأهرام» في فترة من الفترات. كانت ملامح بهاء وطريقة كلامه وخفة ظله تذكرني باستمرار بالأب الذي لم تتح لنا فرصة التعرف إليه مع الأسف.
كان يشغلني باستمرار سؤال عن الابن الذي يمارس فعلاً يقوم به والده، خصوصاً في الكتابة، وكنت أشفق كثيراً على أبناء العباقرة من المقارنة الجبرية التي سيتعرضون لها بين ما ينجزونه وبين منجزات آبائهم، ولهذا أيضاً كنت مهتماً بقصائد بهاء جاهين حتى تيقنت بعد ديوانه البديع «كوفية صوف للشتا» أنّ إبداع الأبناء وارد وقابل أيضاً للمقارنة أحياناً طالما امتلكوا الموهبة.
وربما من بين الأسباب أيضاً انخراط صلاح جاهين في الوسط الفني وتعدد مواهبه كرسام كاريكاتور، وكاتب أغنيات، وممثل أيضاً، وكانت علاقاته الواسعة بالنجوم، ورسومه خفيفة الظل في «صباح الخير» ثم «الأهرام»، لعبت دوراً كبيراً في توهج أثره.
وبطبيعة الحال، فإنّ فؤاد حداد أيضاً كان نجماً، وله أعمال إذاعية وأوبريتات، وبينها ترجمته «الأمير الصغير» إلى مسرحية شعرية غنائية، لكن بالنسبة إلى جيلي، فالوجود القوي لصلاح جاهين أثّر نسبياً على معرفتي مبكراً بحداد.
وأذكر أنّ معرفتي بفؤاد حداد بشكل مقرب واكبت صدور أعماله الكاملة عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، فشرعت في قراءته بجدية، وبدأت في تلمّس وتبين الجهد الذي بذله في تطويع الفصحى للعامية، أو العكس أحياناً، وتوسيع معجم قصائده حتى بدأت في إدراك طبيعة منجزه الشعري، بالإضافة أيضاً إلى جانب يتعلق بأنّني تعرّفت إلى ابنه أمين حداد، تقريباً في نهاية التسعينيات، ثم استمعت إلى قصائد حفيده أحمد حداد للمرة الأولى في أمسية شعرية للعائلة في «وكالة الغوري» كما أذكر، وتبينت أنّ جذر الموهبة امتد إلى أوراق كثيرة في شجرة هذه العائلة الشعرية الوارفة.
كان قادراً على صياغة قصائد أقرب إلى ملاحم صغيرة


كانت قراءة فؤاد حداد بشكل كامل ذات مفعول السحر. كما لو أنّي فتحت صندوق العجائب الذي كنت أراه ولا أقترب منه لأسباب غامضة ومجهولة. كان فتحاً جديداً في الشعر والصياغة وتطويع اللغة والألعاب.
كان أول ما انتبهت إليه في قصائد فؤاد حداد طول القصائد وقدرته على صياغة قصائد أقرب إلى ملاحم صغيرة، على عكس جاهين الذي كان بارعاً في التكثيف، وفي قول الكثير من المعاني العميقة جداً في قصيدة شديدة التكثيف. ويبدو لي أنّ شغف حداد بتخليق أساليب وألعاب لغوية في القصيدة الواحدة، يشغله أكثر بكثير من المضمون فقط. أو كما لو أنه يفضل أن يكرّر المعنى باستخدام ألعاب اللغة والحيل الشكلية لبثّ جمال إضافي للقصيدة، وربما لخلق شكل جديد لقصيدة العامية التي كان أغلب تراثها يطفو على منجز بيرم التونسي، الغنائي نسبياً، والشكلي أيضاً مقارنة بالإضافات المضمونية والشكلية التي أراد فؤاد حداد أن يضيفها إلى قصيدة العامية وقطع أشواطاً ونجح تماماً في ذلك. بل كما لو أنه كان ضليعاً في مغازلة اللعب الأسلوبي ليكون في حد ذاته مضموناً، مما نعرفه في الأدب السردي بالميتافكشن أو النص داخل النص.
في قصيدة «الحلزونة» يقول مثلاً:
«بلعت ريقي ييجي ميت مرّه
وكل مرّه ينقطع صوتِي
بذلت مجهود الجبابرة وأخيراً
قلت لها خليكي هنا ويّايا... حتروحي فينْ ويّا الهوى ويّاه
قالت لي ياه
قلت لها يايا ويايا
واحْنا بقينا في آخر الدنيا يا
والزنبلك داير على الفاضي
اتلفتت لي المستبدّة اللطيفة
وخدّها بينّطر دموعْ مش نازلهْ
والحبّ أرحم لما يبقي مغازلة
قالت لي عيب بدل الموتْور والمحرِّك
يا عم يا شاعر تقول زنبلك لكْ
سنن بقي في المعاني تلكلكْ
وتنشغل بالْلفه والأسلوبْ».
والحقيقة أيضاً أنّ القصيدة تنتمي إلى نوع من القصائد التي كتبها فؤاد حداد كما لو كانت «حكاية مغناة»، أو سردية شعرية، تبدأ من موقف وتتوالى الأحداث، وتتولد المعاني بالتالي من مواقف البطلين، وهما هنا الشاعر والحبيبة، مع الأخذ في الحسبان أن الشاعر هنا افتراضي، أي ليس بوحاً ذاتياً وإنما تمثيل أدبي.
وأظن أنّ هذا النهج الذي برع فيه في العديد من قصائده البديعة، كان بين أسباب اتّسام قصائده نسبياً بالطول، لأنه لم يكن يقصد المعاني المجردة، أو المضامين الفلسفية أو الوجدانية إلا في إطار يمزج السرد بالشعر.
ولهذا، فإن من يظنها قارئ القصيدة في البداية حبيبة أو عشيقة، سوف يدرك لاحقاً قرب الختام أنها جنّية الإبداع أو الإلهام:
«نورتِ بيت الشعر يا أمّوره
قالت لي دا انت اللي ولد أمّور
يا طفل شايب في قماط دمّور
خُد المرايه بُص شوف الوسامة
رسمت كلامي ودنك الرسامة
ودعوا لنا نوصل قصرنا بالسلامة
الجن والناس اللي في الحلزونة».
وفي هذا «التويست» الأدبي أيضاً استيعاب تام للبناء الأدبي وتطويره من جهة، وأيضاً ما يتناغم مع عنوان القصيدة.
هذه الشعرية السردية ستسم عدداً كبيراً من قصائده، خصوصاً أنّه كان موهوباً موهبة استثنائية، غزير الإنتاج، ولكن بين أشعاره ما يبقى في الوجدان خالداً، كما لو أنه شعار يتخذه المرء في حياته أحياناً من مثل قوله في قصيدة «المسحراتي»:
«المشى طاب لي
والدق على طبلي
ناس كانوا قبلي
قالوا في الأمثال
الرِّجل تدِبّْ مطرح ما تحب
وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال
حبيت ودبّيت كما العاشق ليالي طوال
وكل شبر وحتّة من بلدي
حتة من كَبَدي
حتة من موال».
هذه القصيدة فتحت عيني أيضاً على إلمام الشاعر الكبير في الوجدان المصري، والتراث المصري، وعلاقته بالتراث العربي، ليس فقط من حيث مضامين قصائده العروبية، وقصيدته الشهيرة «الأرض بتتكلم عربي» خير مثال، التي أوكل للعامية فيها بيان الإرث الثقافي العربي المشترك، بل أيضاً من حيث البحث الرهيف في خصوصية الصوفي المصري الموجود تقريباً تحت غشاء قلب كل مصري، أو على الأقل ما شاع في الوجدان المصري في تلك الفترة. كما كان يمتلك حساً حقيقياً بالسمة العامة للشعب المصري الذي يفيض بالطيبة، ويسعى لمشاركة الآخرين حمل ما قد يواجهونه من معاناة.
«نمشي الطريق إتنين فرحانين
‏إتنين نِقسم لبعض الرغيف
‏نضحك سوا الإتنين
‏حِمل الليالي خفيف
‏لما يشيلوه إتنين».
أما الحس العروبي، الذي تجلى في العديد من قصائده، فلا يعود فقط لكون العروبية كانت تجسد شعوراً عاماً تشاركته أجيال الأمة العربية في تلك الفترة، وعبّر عن روح قومية عربية تناهض الاستعمار، بل أيضاً يعود إلى جانب الجذور الشامية التي يمتد منها فؤاد حداد عبر أبيه الذي هاجر إلى مصر وعاش فيها كل حياته.
استخدم مفردات كثيرة تعبّر عن هذه المعرفة كأنّه كان المسحراتي الذي طاف ربوع مصر وتعرّف إلى أهلها بوصفهم أفراد عائلة كبيرة توزعوا على أرجاء الدلتا ومسار النهر، قد تختلف طبقاتهم وفئاتهم، لكنّ ثمة نسيجاً خفياً يربط بينهم، كما لو أنه مشترك طبيعي وفطري يورث عبر مياه النيل.
«يا اسمر يا روحي يا امتداد النيل
الثانية مشيت قد ألفين ميل
على قافية متقدر لها تحميل
ألفين سنة ويفضل كلامي جميل».
وامتدت معرفته بالوجدان المصري بطبيعة الحال إلى الجانب الفطري في وجدان أغلب المصريين البسطاء وغيرهم، المتعلق بالتصوف والتدين، طبعاً قبل ظهور جماعات الإسلام السياسي والمتاجرة بالدين، وعبّر عنه بأكثر من وسيلة. لكن بين ما أحبه بين تلك القصائد، قصيدته الجميلة «الخضرة الشريفة»، وبين ما يقول فيها:
«فين تبدأ الأشواق وفين المرسى
أنا شفت من برَّه وجوَّه عينيَّ
الشمس ماشيه بتبكي زيّ الخرسا
وبلغ معاه السعي قال يا بنيَّ
شفت اسماعيل في عيونه إنسانان
دمعة حنان زيّ ابتسامة حنان
بيقولوا يا أبتي بأجمل حسّ
كان نصل ما يحتاج إلى سنّان
ورمش نايم في الحجر بيمسّ
اللهُ أكبر أيها المؤمنان
سجد ابراهيم للي ناداه يا ابراهيم
ورأى اسماعيل الدنيا زيّ الميدان
الله هُوَ الرحمنُ وَهوَ الرحيم
والناس إلى الكعبة في نور الأدان
أقبل فؤاد من أفئدة
تهوِي إليك»
وربما كان يصف فيها زيارته لأداء العمرة أو فريضة الحج، لكنه قدّم لها سرداً شعرياً صوفياً مدهشاً. لكنّ الأهم هو الكيفية التي طوّع فيها اللغة والتراث الديني معاً في بناء القصيدة، وبالشكل الذي يمنحها نفحة وجدانية رهيفة في شفافيتها ولكن قوية في تأثيرها الوجداني، بفضل استيعابه للتراث الوجداني الديني الشعبي.
والحقيقة، كانت تعجبني نبوءاته بأنّ شعره سوف يستمر لألفي عام، وأن قصيدته خالدة، وغير ذلك مما كان يدرجه بين قصائد مختلفة، إضافة إلى وصفه نفسه بأنه بين آباء الشعر، لأنّها أوصاف لا نرى فيها تزيداً، بقدر ما تبدو لنا تعبيراً عما نود أن نقول أو نصف به هذه العبقرية الشعرية التي ستظل بالفعل خالدة في الوجدان المصري والعربي.
ولهذا لم ألتفت في القصائد إلى السياسة كثيراً، فظني أن السياسة تفسد الأدب أي أدب، مهما كان جميلاً، لأن معنى السياسة في الثقافة العربية «الهجاء السياسي» وهو تراث قادم من منطقة أدبية انتهت تقريباً في العصر الحديث. ولهذا أفضل قراءة تاريخ مصر الوجداني من خلال شعر فؤاد حداد، فهذا دوره الجمالي والحقيقي الذي عاشه وسيعيش...