نعرف أنّ القدر شاء ألا تفصل سوى ساعات فقط بين ذكرى يوم ميلاد فؤاد حداد (28 تشرين أول/ أكتوبر) وذكرى يوم رحيله (تشرين الثاني/ نوفمبر). «كأنه لم يعش سوى ثلاثة أيام» يقول الذي يحبّون أن يروا الدنيا كمجاز. لكن حتى إذا تركنا الأيام جانباً وأخذنا بالأعوام، فإن الرحلة لم تكن طويلة بين عام الميلاد (1927) وعام الرحيل (1985). قبل الستين إذن وقبل سن المعاش – الذي طالما كتب عنه مستبقاً الوصول إليه – كان حداد قد أدى أمانته ورحل غير قلق على كلماته: «ألفين سنة ويفضل كلامي جميل». وفعلها بعده مباشرة صلاح جاهين وقبلهما عبد الرحيم منصور، كأنّ ثمة اتفاقاً سرياً بين بعض أبرز كبار شعر العامية على الرحيل قبل سن الشيخوخة.

وقد لا نعرف كيف سيكون حال شعر فؤاد حداد بعد «ألفين سنة»، لكن هذا العام، اجتاحت «فورة ذكرى» – لو صح التعبير – مواقع التواصل في ذكرى صاحب «المسحراتي». ربما أسهمت تلك الأيام القصيرة بين ذكرى ميلاده ورحيله في تكثيف تذكّره واستدعائه. وربما أيضاً لأنه في هذه الأيام الصعبة، ليس ثمة من هو مناسب للاستدعاء أكثر من أبيات صاحب «أيام العجب والموت» التي «جات بسرعة زي غمضة عين»، والتي تحاصرنا على الطريقة التي يصفها ببراعة بعد شطرين «كنت بتقلّب على الجنبين/ والكابوس من كل جنب يجيني».
القصيدة كانت في الأصل مرثية لـ «الرفيق جودة سعيد الديب» صديق حداد المتوفى في نهاية سبعينيات القرن الماضي. لكنها، فضلاً عن تخليدها اسم الصديق، نصّبت نفسها كواحدة من أجمل وأهم وأرقّ أشعار صاحب «مصر المصرية بتغني». لم تكن رثاء للديب فحسب، ولا لفؤاد حداد نفسه – وجيله وآماله – فحسب، بل للأحلام المحطمة في كل جيل. نيابةً عن جميع المحبطين يبكي حداد على «المستقبل الفاني» بعدما حاول أن يعمل «الممكن مع المستحيل»، متمنياً ومتألماً: «لسه هارجع طفل تحت المطر/ انحني ع الأرض وافضل عجوز/ اتوهمت الخوف دهسني الخطر»، ومحاولاً التمسك بقناعة أخيرة «كل شيء إلا الخيانة يجوز».
لكن لا قصيدة «أيام العجب والموت» الصادرة في ديوان بالعنوان نفسه، ولا عشرات غيرها، ولا حتى مئات القصائد، يمكن أن تعبّر عن فؤاد حداد، أو تمثّل – وحدها- شعره، هو بلا شك أحد أغزر شعراء مصر إنتاجاً، حتى إنّ كل المنشور له حتى الآن قد لا يغطي كل ما كتبه حقاً، بل إن المنشور نفسه، في الطبعات الرسمية والخاصة، لم يُقرأ منه ما يكفي، ولا قُرئ كما ينبغي، رغم المحاولات والمطبوعات والفرق الفنية والموسيقية والأعمال الإذاعية والمسرحية التي حاولت الإحاطة بالإنتاج الهائل لـ «أشعر من خلق ربنا من الإنس والجان» كما وصفه صلاح جاهين. هكذا فإن قصائد ونصوص حداد، بمراحلها المختلفة، بتنويعاتها بين التفعيلة والحر والنثر، بلهجاتها المتنقلة بين الألسنة العربية، بل حتى بكلماتها التي اعتاد حداد أن يختلق بعضها اختلاقاً، كلها، بإجمالها الذي لم تتم الإحاطة به معاً، لا أقل، هي ما يمكن أن يمثّل يوماً ما مشروع صاحب «الحضرة الزكية» و«ميت بوتيك» و«الحمل الفلسطيني».
على الرغم من تلك النظرة الكليّة للمشروع الشاسع، فإنه على الناحية المعاكسة، وعلى طريقة الفيزياء الصوفية حيث «انطوى فيك العالم الأكبر»، فإن كل بيت، كل شطر شعري لفؤاد حداد، بإمكانه أن يعكس صورة واضحة كاملة النقاء لصاحب «من نور الخيال وصنع الأجيال». ولهذا، ربما، كان احتفال الأجيال الأحدث به على فايسبوك حائزاً – ومناسباً- لكل هذا الغنى الشعري، عبر مشاركة مئات، ربما آلاف الأبيات الشعرية، المنفصلة، المُختارة بعيون محبيها، غير العارفين بالضرورة إلى أي قصيدة ينتمي هذا الشطر الشعري أو ذاك «ماليش خيال إلا ان رميتني بنور»، «حمل الليالي خفيف لما يشيلوه اتنين»، «الناس بتاكل بعض، مش واكل»، «نورتي بيت الشعر يا أمّورة»، «يا ريتني أعمى أشربك باللمس»، «دخانك اسود يبقى قلبك شايل»، «بكيت بامسح دموعي، بامسح دموعي بكيت». لا يهم أن تعرف اسم القصيدة، فكل شطر هنا قصيدة حدّادية قائمة بذاتها، تحمل الأثر الشعري الذي لا يزيّف «فيه أثر للعشرة مهما تهون». ربما لهذا «نجا» حداد من عملية تزييف القصائد التي أصابت شعراء وأدباء راحلين غيره، نسب إليهم «الفايسبوكيون» أبياتاً وعبارات ركيكة ليست لهم. لم يلحق هذا المصير بشعر فؤاد حداد، ربما لأنّ أشعاره – من فرط أصالتها، وبساطتها المعقدة- عصية حتى على الفبركة.