على الرغم من المحاولات الحثيثة لإنتاج الثقافة في لبنان، إلا أنَّ الأزمة الاقتصادية والمعيشية لا تزال تضرب المجتمع بعنف، جاعلةً الثقافة عنصراً من «الكماليّات». مع ذلك، تظل بعض التجارب تطل بين الفينة والأخرى ضمن بيروت. أحد هذه الأنشطة التي ستُقام في العاصمة، هو محاولة «تلطيفية تجميعية» يقوم بها الباحث والكاتب نصري الصايغ الذي كان مقرراً أن يعقد اليوم لقاء يقدّم فيه بعض كتبه لـ «أصدقائه ورفاقه، كما للراغبين بها» وفق ما جاء في نصّ الدعوة. إلا أنّ اللقاء تأجّل في اللحظات الأخيرة إلى موعد يحدد لاحقاً.
نصري الصايغ: أصبحت الثقافة اليوم ثقافة طوائف وأنظمة لا ثقافة إبداع ومعرفة وحرية وفكر

«قلت إنّنا يجب أن نلتقي فقط. أن نجلس كما كنا نجلس سابقاً، أن نتحادث ونتسامر، كما هي فرصة لتقديم كتبي الأربعة الأخيرة». يقول لنا صاحب «الخراب: يوميات شارع في بيروت»، قبل أن يضيف بأنّها «محاولة لجعل الكتاب متداولاً بين القرّاء، هذا أولاً. ثانياً إن الأزمة المالية جعلت الكتاب من فئة الكماليات، وهذا أسوأ ما تُصاب به الشعوب عندما يصبح الكتاب والمعرفة في آخر برنامج حياتهم. كانت الجامعات في السابق تعتمد على ما يقدّم من محاضرات في فروعها، وما يُصار من نقاشات لاحقاً بداخلها. أي أن الحياة الثقافية كانت حياةً في الجامعة وفي الجريدة، والشارع، ودور النشر. حالياً كل هذا تغيّر وتضاءل، وصار الخوف عليه أن ينعدم تماماً. الخوف بأن تصبح القراءة والكتابة من المشكلات؛ لا جزءاً من الحوار. اليوم الجامعات لديها مشكلات، والمشكلات تعني في النهاية أن الإنسان يعيد ترتيب أولوياته بحيث تصبح الأولوية بحسب الحاجة: يريد أن يأكل، أن يشرب، أن يذهب إلى المستشفى، أن يحصل على «دولار»».
يعترف صاحب «محمد: السيرة السياسية» بأننا أمام أزمة ثقافة حقيقية تضرب المجتمعات العربية بعمق: «نحن الآن في القعر. بيروت كانت تسمّى في الستينيات والسبعينات من القرن الماضي عاصمة الكتاب العربي، ومطبعة العرب، وكانت تقرأ لكتّاب من المغرب وصولاً إلى اليمن. كانوا كلهم على حدٍ سواء، لديهم مكانٌ في بيروت. كانت بيروت موزّعة على هذه القارة العربية من المشرق إلى المغرب. اليوم لم نعد نسمع شيئاً. إلا قليلاً ونادراً عن مصر، وهي منتجة للكتاب العربي، فالمسائل المادية والمعيشية والاقتصادية هي الأساس اليوم. من هنا أصبحت الثقافة اليوم ثقافة طوائف وأنظمة لا ثقافة إبداع ومعرفة وحرية وفكر».

رانيا مطر ـ «نور، بيروت، لبنان» (2017)

ماذا عن الكتب الأربعة التي تحضر في اللقاء؟ يجيبنا: «في حياتي أنجزتُ حوالى أربعة وعشرين كتاباً. الأعمال الأربعة الأخيرة لم أتابعها أو أسأل عنها، كنتُ منعزلاً في قريتي في مشغرة (البقاع اللبناني). أما الأسباب فكانت أولاً كورونا، ثم الانفجار الكبير في مرفأ بيروت، وثالثاً كانت لدينا في العائلة بعض الظروف الخاصة. هذا الانقطاع عن كل الأصدقاء جعلني أرغب في العودة والالتقاء مع هؤلاء الأصدقاء لتقديم هذه الكتب من جديد». ويكمل: «الكتاب الأوّل هو مسرحية بعنوان «خلص» عن مشهد حقيقي حصل في إحدى الدول العربية. يومها، اتصل بي الكاتب المصري الكبير جميل مطر وأخبرني بأنه وُجِدَ في أحد السجون العربية مساجين أربعة، أحدهم يرتدي سروالاً داخلياً قصيراً، فيما الباقون كانوا عراة. أجبته فوراً بأنّ ذلك سيكون موضوع مسرحيتي. لذلك قمت بكتابة مسرحية حول هؤلاء الأربعة الحقيقيين الذين كانوا في السجن والصراع الذي دار بينهم، بحيث كان هذا الصراع وجودياً عنوانه «الكيلوت». أما الكتاب الثاني فهو «دفاعاً عن الخطأ والخطيئة» انطلاقاً من أن الحقائق ليست موجودة إلا في الكتب، لا في الحياة، والدليل على ذلك أن النص الإنجيلي ليس موجوداً في الحياة، والمسيح هو ليس المسيحيين، والمسيحيون ليسوا المسيح. الإسلام في نصه التأسيسي ليس المسلمون.
الخوف بأن تصبح القراءة والكتابة من المشكلات؛ لا جزءاً من الحوار (ن. ص)

الحقيقة الناصعة الوحيدة موجودة في الكتاب، وهذا ليس حصراً على الدين، بل على الأفكار كالماركسية مثلاً، أينها؟ هل انتصرت الماركسية؟ لم تنتصر، انتصرت البلشفية. نحنُ نعيش في الخطأ، وندافع عن هذه الأخطاء. الكتاب الثالث هو «أريد حذاءً لروحي»، وهو عن الفجيعة التي حدثت في مرفأ بيروت، أنا أصبت بالصمت، لأنني لم أستطع الخروج من هذا الواقع إلا بكتابة انهياراتي. كتبت ما لم يكتب عادةً في مثل هذه الأحداث. كتبت عن الانهيار والصراع، الغبار، الحجارة، عن كل ما يمكن أن نسميه لا معقول، لأن الذي حصل كان فعلاً كذلك. الكتاب الرابع هو كتاب مطبوع للمرة الثالثة مع النسخة الفرنسية «الخراب: يوميات شارع في بيروت». هذا الكتاب أعدت طباعته مع النص الفرنسي، ذلك أنه مفقود، خاصة أن ابني نصري هو الذي أشرف على النسخة الفرنسية». ولا ينسى أن يشير إلى كتاب «محمد: السيرة الذاتية» الذي سيقدمه هو الآخر ضمن الكتب المهداة/ المقدّمة في طبعته الجديدة.
أخيراً، لماذا يصر على أن تكون هذه الكتب «تقدمة؟ يردّ برحابة صدر: «أنا أحب هؤلاء الناس، هم أصدقائي، فأنا أريد أن أعطيهم كتبي بلا مقابل، دعنا نذهب إلى الفكرة والثقافة والموسيقى».