ما إن نصلَ مشارفَ قرية بيت ياحون في أعالي جبلِ عامل قبالةَ جليلِ فلسطين حتى نشعرَ أن الهواءَ تغيرَ وصارَ أكثرَ أُلفَةً ومودةً. هل مردُّ ذلكَ أن الجغرافيا هناك مختلفةٌ بطبيعتِها، بتضاريسِها وهضابِها التي تُشبِهُ أثداءَ الأمهاتِ المباركات، أم بطبيعةِ ناسِها الذين يتنفسونَ خيراً وبركةً وصلوات، أم لأن ترابَها مجبولٌ بدماءِ الشهداء (ومرَّةً قلتُ: في الجنوبِ يجوزُ التيمّمُ بالترابِ حتى وإن حضرَ الماء)، أم لأنها مهبطُ الشِّعرِ والشّعراء الذين امتزجَ حبرُ قصائدِهم بعرقِ الفلاحينَ ووردِ الأحبَّةِ وأرقِ العاشقات. لعلَ السرَّ كامنٌ في كلِّ ما سلفَ من كلامٍ، وما سلفَ من أيام.
ما عليه، فما يهمُّ الآن أن شاعرَنا الكبير محمد علي شمس الدين هو ابنُ تلك الجغرافيا الواقعةِ دوماً على خطِّ النار، الولّادةِ للنورِ والضياء، مرَّةً في هيئةِ قصيدةٍ، ومراتٍ في قوافلِ الشهداء. وهو أيضاً ابنُ بيئةٍ تحتفي بالشعرِ والشعراء، وتُعلي شأنَ لغةِ الضادِ من ألف لام ميم حتى آخر حرفٍ في كتبِ الأرضِ والسماء.
ولو تمعّنا جيداً في المنجزِ الشعريِّ لشمسِ الشعرِ العربيِّ اللبنانيِّ لوجدناهُ مزيجاً من ذاكَ التلاقحِ العظيمِ بين الثرى والثريا. تلاقحٌ طبيعيٌّ تمثِّلُهُ الطبيعةُ نفسُها في تعاقبِ فصولِها وتقلُّبِ أمزجتِها، وتُمثِّلُهُ أكثر الذخيرةُ الروحيةُ والفكريةُ التي حملَها الشاعرُ في حِلِّهِ وتَرحالِهِ، وفي كلِّ ما عاشَهُ واختبرَهُ منذُ نعومةِ حرفِهِ وأحلامِهِ وخشونةِ طفولتِهِ المعذَّبَةِ والمنشطرةِ بين أُمَّيْن، أُمٍّ بيولوجيةٍ حُرِمَت من تربيته ورعايته ولم يتسنَ له البقاءُ طويلاً في أحضانِها، وأُمٍّ مربيَةٍ وجدتْ فيه تعويضاً عن ما حرمتْها منه الأقدار. هكذا، كان قدرُ محمد علي شمس الدين منذ البدايةِ أن يكونَ شاعراً سيزيفياً، ويحملَ صخرةَ الكدِّ والجِّدِّ في علاقتِهِ مع الحياة، ومع اللغة، ومع الأسئلةِ الكبرى التي راحَ يحاكي فيها أسلافَه العظماء، ويحكي من خلالِها مع الغيبِ والغياب، محاولاً الرسمَ بالكلمات وجوهاً يفتقدُها، وأمكنةً يبتغيها، وعوالمَ يسبرُ أغوارَها، متسلِّحاً بتلكَ العُدَّةِ الروحيةِ الموروثةِ من أسرَّةٍ ذات باعٍ طويلٍ في العلاقةِ مع اللغةِ والفقهِ والأدب، والمكتسَبةِ من تجاربِ الحياةِ بحلوِها ومرِّها،
لذا قرأناهُ، في قصائدِهِ ونصوصِهِ، محاوراً بارعاً لأسلافِهِ العظماءِ من الشعراء والمتصوفين الذين غدا واحداً منهم، ينحتُ الريحَ وينحتُ الروحَ وينحتُ اللغةَ ليخلّصَها من زوائدِها تماماً كما يخلِّصُ النحاتُ الصخرَ من زوائدِهِ كي يستخرجَ الجمالَ الكامنَ فيه.
من وجهِ ذي الجلالِ والإكرام إلى وِجهِ أُمِّهِ وما بينهما من وجوهٍ وعتباتٍ رحلةُ كوكبِ الشّعرِ الذي ما انفكَّ يدورُ حول شمسِ قصيدتِهِ، يستمدُ منها الضوءَ والدفء وكلَّ ما حُرِمَ منه طفلاً وفتى وجنوبياً حملتْهُ الدروبُ إلى شمسِ العواصمِ بيروت، وإلى المدنِ والدساكرِ القريبةِ والبعيدةِ. غادرَ الجنوبَ لكنَّ الجنوبَ لم يغادرْهُ يوماً، ظلَّ مسكوناً بحليبِ البلادِ ودخانِ القرى، وظلَّ وفياً للترابِ الذي يجوزُ التيَمُّمُ به حتى وإن حضرَ الماء، لم يهادن ولم يساوم على حقِّهِ في الدفاعِ عن أرضٍ أنبتتهُ شاعراً ومثقفاً ورائياً إلى المابعد والماوراء، لم ينتشِ بتكريمٍ هنا وجائزةٍ هناك، ولم يسعَ إلى منصبٍ أو جاه، ظلّ الشاعرُ فيه أكثر حضوراً وأكثرَ نبلاً وجمالاً من كلِّ ما عداه، مثلما ظلّ فيه الجنوبيُّ اللبنانيُّ العربيُّ المعفَّرُ بترابِ القرى ودمعِ كربلاء أكثرَ توهجاً وسطوعاً، وعلى الرغمِ من كلِّ قلقِهِ الوجوديِّ ومساءَلتِهِ الغيبَ والغياب، لم يغبْ عنه وجهُ العاشقِ المفتونِ بسحرِ الأنوثةِ وخصوبِتها وتماثلِها مع الطبيعةِ الولّادةِ الخلّاقةِ المعطاء أُمَّاً وحبيبةً وابنةً…
محمد علي شمس الدين يبقى دائماً وأبداً علامةً فارقةً مضيئةً في جغرافيا الشّعر اللبنانيِّ والعربيِّ والعالميِّ، وها هو الآن يجمعُ جغرافيا لبنان إذ يتعانقُ أربعينه الجنوبُ والشَّمال وبقيةُ الجهات، فألف شكرٍ له، ولمن جمعَنا تحت ظلالِهِ منتدى شاعرِ الكورة الخضراء ولسيدتِهِ النبيلة ميراي عبدالله شحادة، والشكرُ موصولٌ لكم جميعاً، وخالصُ العزاءِ لأسرتِهِ الكريمةِ ولمحبيهِ وقرائِهِ في كلِّ مكان.

* ألقيت في مهرجان ذكرى أربعين الشاعر محمد علي شمس الدين، الذي أقامه «منتدى شاعر الكورة الخضراء» قبل فترة في قصر الأونيسكو في بيروت.