ضمن سلسلة «حروف الفلسفة» التي تصدرها دار «كلمة» في تونس، جاء كتاب «التشكّل الإيروطيقي في الفن» للباحث التونسي المعزّ الوهايبي. العمل، الذي يعدّ من أبرز ما صدر في السنوات الأخيرة، يتناول سؤالاً مركزياً: «كيف يستحيل الحبّ دافعاً للإنشاء الفني وآلية له؟». منذ البداية، يقدّم الوهايبي مجموعة من التوضيحات حول منهجه في دراسة تمثّلات الحب في الأعمال الفنية، خصوصاً على مستوى المصطلحات التي اعتمدها، فـ «هذا العمل يتدبّر كثيراً من المصطلحات التي تشكّلت في رحم ثقافة تنطلق بلسان آخر غير العربية، ويمكن لقارئها في لغاتها الأصلية أن يهتدي إلى دلالاتها ومقاصد استخدامها بعناء أقل ممّا يلاقيه وهو يقرؤها في العربية».ويؤكد الوهايبي على مسألة مركزية وهي تجاوز «الأخلاقي» في تناول الأثر الفني إلى «الجمالي». يقول: «لا نستطيع، في الواقع، أن نبيّن كيف يكون الحب آلية إنشائية فنية إلا إذا اهتدينا إلى سبيلين: الانتقال به من دائرة الأخلاق إلى دائرة الجماليات». كما يؤكد على المنهج الذي اختاره: «إننا في عملنا هذا، نشتغل بالحب الثاوي في آثار الحب أكثر من اشتغالنا بالحب في حد ذاته، أي لا نشتغل بالحب كما هو بحدّ ذاته أو بما هو مفهوم فلسفي كمقصد أساسي لنا (وإن كنا نستأنس لا محالة بالتحديدات الفلسفية)، وإنما نشتغل به كما يتجلّى في الآثار الفنية التي تحتفي به في تصاريفه الأيروطيقية».
الخيط الرابط في هذا الكتاب، هو دائرة العلاقات التي تربط الثلاثي الحب والجسد والإبداع الفني من خلال «عري الفنّ» منذ ما قبل الفن الإغريقي والفن المعاصر مروراً بعصر النهضة. فالموضوع الأساسي لهذا الكتاب هو «الحبّ في دلالته الايروطيقية» التي تستحضر الجسد، باعتباره حاملاً للرغبة، والقادح الأساسي للحبّ، وبالتالي تناول الوظيفة الإنشائية للحب في العمل الفني.
يخصّص المعز الوهايبي القسم الأول لإيروطيقا الحب، فيتناول ثلاث مسائل هي: «في الرغبة وإحراجاتها»، و«في القيمة الإنشائية للرغبة جمالياً»، و«المتعة الفنية والتشريع لأيروطيقا الفن». ويتوقف عند مساهمة التحليل النفسي في بلورة العلاقة بين العري والمتعة الايروطيقية، مشيراً إلى أنّ فرويد قد يكون خيطاً ناظماً في هذا التحليل، فعلم الاستيطيقا يدرس الشروط التي «نستشعر ضمنها الجميل، كما أن الانفعال الاستيطيقي مشتقّ من دائرة الإحساسات الجنسية».
ويخصّص المؤلف القسم الثاني لجسد الايروس، فتناول «بين الجسد»، و«الموضوع والجسد»، و«الذات» (في المقارنة بين التدبّر البورنوغرافي والتدبّر الايروطيقي للجسد). وفي الفصل الثاني، تناول الأيروس والموت وفي الثالث فضاء الإيروس ويقسّمه إلى ثلاثة فضاءات السرير والحمام والمرآة. وفي الفصل الرابع يتناول إيروطيقا اللباس علامة على علامة. أما الفصل الخامس فيسميه ألوان الأيروطيقا وخاماتها، وفي الفصل السادس يتناول «التلصّص إنشاء أستيطيقيا -أيروطيقيا».
ينطلق الباحث في هذا القسم الثاني من تحديد مفهومي الجسد والعري، ويقول: «جسد الإيروس، إذا ما أخذناه في معنى الجسد العاري، يتعارض مع جمال الوجه أو مع الجسد الكاسي بلياقة بأعتبار أن هذا الجسد العاري يقترب كثيراً من المقام الكريه للأيروطيقا. ذلك أنّ جاذبية وجه جميل، أو ثوب جميل، تتمثّل في كونه يؤدي دوره باعتباره ما تخفيه الملابس».
أما «العري» فليس «البساطة» الطبيعية للأجساد، أي ما يفترض أنّه حالتها المتوحشة، ولا هو «النحو» grammaire المسالم أو غير المؤذي، اللامجنس desaxuante الذي يراه فيه رولان بارت، وإنما تو قصد يتحقّق ضمن سياق معين.
ويشير الوهايبي إلى أن الفنان «يستطيع أن يطلق العنان لخياله أكثر من العاشق الذي يظل في نهاية المطاف خاضعاً لعلاقات حيوية مفروضة عليه عينياً، في حين يستطيع الفنان، في ما يخص موضوع حبه أو رغبته، أن يخلق واقعاً جديداً، وهو واقع الفن لا محالة».
ويرى المعز الوهايبي أن الفضاء هو المحدد لنفوذ الإيروس ويتوقف عند الفن الاستشراقي وافتتانه بالحريم. ويستحضر دولاكروا وزيارته إلى الجزائر عندما اطلع في شقة على «يومي محظور وساحر» ويقول في هذا السياق إنّ «الحريم يكتسي طابعاً أستيطيقياً لا يتوفر للماخور الذي لا يمكن أن ننفي عنه كونه هو أيضاً فضاء من فضاءات الإيروس».
كما يتوقف عند «السرير» كفضاء من فضاءات الايروس لكنه «ليس مجرد فضاء سياقي للعري، وإنما هو وسيط انشائي يكشف عن الطابع الشهواني للجسد العاري، وإنما يتحوّل هو بدوره الى ألغوريا، إلى سردية أيروطيقية».
ويعود في الحديث عن «الحمّام» كفضاء الأيروس إلى «فينوس الخارجة من الماء» في لوحة لتيتيان بهذا الاسم ورينوار، كما يتوقف عند «الحمام التركي» والأستشراق وأعمال أنغر كما كتب عنها الشاعر الفرنسي بودلير. وقد اعتمد الباحث في هذا القسم على مجموعة من الأعمال التشكيلية من عصر النهضة تشكّل الاستشراق للجسد في مختلف تمثّلاته.
ويخصّص المعز الوهايبي القسم الثالث من كتابه لما يسميه «جندرة الأيروطيقا تشكيلياً»، ويرى أن العري الذكوري لم يصبح «شهوانياً ومخزياً»، إلا عندما أقامت المسيحية تعارضاً بين الجسد والنفس، بين اللحم والروح «ورغم ذلك واصل الفنانون استحضار الجسد الذكوري العاري في أعمالهم».
ويتساءل المعز عن امكانية وجود استيطيقا جديدة للفن خارج دائرتي الإباحة والتحريم؟
هذا هو السؤال المركزي الذي ينبّه له الباحث ويدعو الفنانين إلى اعادة اختراع العرية وجعل الجسد في مسار تشكّل جديد، فالعرية الفنية كما يسميها قد تكون سبيلاً لاكتشاف أغوار الكائن البشري وعريه الداخلي، وهو ما عبّر عنه فنانو الفن الجسدي ويستحضر في هذا السياق بعض الفنانين. هذا الكتاب هو الأول الذي يصدره المعز الوهايبي الحاضر في المشهد الثقافي في تونس منذ حوالي أربعين عاماً، فهو من الباحثين الذين لا يستسهلون النشر، وكتابه هذا يؤكد على جديته واختياره لمبحث قليلاً ما تم تناوله ليس في تونس فقط، بل حتى على مستوى الخارطة العربية. فالمعز الوهايبي (أستاذ فلسفة الجماليات في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في القيروان) ليس من الأكاديميين الذين يكتفون بأسوار الجامعة والصفة الأكاديمية، لكنه دائم المساهمة في المشهد الثقافي من أجل تأكيد السؤال في مشهد ثقافي يعاني من الوثوقية واليقين.
فكتاب «التشكيل الأيروطيقي في الفن» الذي تضمّن عدداً كبيراً من اللوحات، مساهمة جادة ونافذة على بحث في الجماليات الذي تفتقر إليه المكتبة التونسية، خصوصاً في مستوى الكتب باللغة العربية. يوفّر الكتاب وثيقة مهمة للباحثين في مجال الفنون التشكيلية وعلاقتها بالفلسفة، خصوصاً فلسفة الجسد وتمثّلاته الفنية منذ اليونان مروراً بعصر النهضة الأوروبي، وفناني الاستشراق وصولاً إلى الفن المعاصر.