يكاد أندري صايغ يتحوّل الى خبر كان. كأنه استحال شخصية غائبة يُشار إليها بصيغة الماضي كما تمليه حالة الغياب. لماذا غاب أندري صايغ عن الشارع وما هي أخبار مقالبه؟ للعارف أن يفيدنا. قبل أعوام، ازدحمت الأجهزة الخلويّة بفيديوات على شاكلة حلقات من برنامج مصوّر عنوانه «خيّك أندري بالشارع»، لرجل فضولي يزعم أنه إعلامي يعمل في كار تسويق السلع والخدمات، تقتضي مَهمته مساءلة الرأي العام عن مسائل وآراء تخصّ مجال عمله، حتى صار هو وأسئلته، حديث الساعة. آنذاك، كان الأخ أندري يمارس موهبته بإحكام، ماحياً أي لبس ممكن أن تثيره هُويته المزيّفة، على أن يحصر إثارة السؤال لنفسه دون أن يثير دوره المزعوم السؤال. كان بارعاً في تقمّصه دور القناص المحترف الذي يصيب هدفه بطلقة واحدة، حتى راحت طلقاته تتعدّد تعدُّد ضحاياه الذين تهاووا تباعاً. منهم من كان مواطناً عادياً وآخرون كانوا نجوماً مشهورين.قنصهُ بدا متقناً ومشغولاً، في الشكل والمضمون. كان يجول شوارع بيروت مرتدياً بزّة الصيد: قميص رسمي وشعر مصفّف بالجِل. لا رجفة في الصوت وملامح الوجه جدية. يقف وراء الميكرو عابساً وينتظر فريسته حتى تظهر ليقنصها اقتناص المحترف: «هل جرّبت صلصة الـ Moccasin مع الباستا الإيطالية؟»، «هل أنت راضية عن أداء الطباخ أنطونيو كندرجي؟» وهلمّ جرّاً من أسئلة يحبها اللبناني بطبعه المُحبّ للغات الأجنبية ولرنين وقعها، ولأسماء مزخرفة مخلوطة مع أطباق طعام توحي بأنها من صناعة مطاعم خمس نجوم يرتادها أصحاب الوجاهة.
يجيب الرجل على السؤال الأوّل، بأنه لم يتذوّق صلصة الـ Moccasin فيما صديقه فعل، وقد اعترف له أن طعمها رائع. أما الفتاة التي طرح عليها سؤال «الكندرجي»، فقد أبدت إعجابها الكامل بقدرات «الشيف» ومطبخه الشهيّ. امرأة ثالثة سُئلت عن لحمة ألمانية صادرة حديثاً في السوق تدعى Birkenstock وإذ بها تقول ما معناه، إنها لم تعرف طوال حياتها نكهةً ألذّ منها. لكنّ اللذة التي نحوزها نحن المتفرّجين ونصرفها ضحكاً وسخرية، قوية إلى حدّ العنف القاتل، لها القدرة أن تقتل الضاحك خنقاً أو شردقة في حال كان يستقبل بلعومه طعاماً.
تضعنا المقالب في قلب حالة الضحك الساخط معطوفة على حالة ذهول ملحمية. يوجد جوهر تراجيدي في لاوعي حاضر وطليق يتحدث مع أندري صايغ كصديق نديم، ويتعامل مع مفردات غامضة تعامل المتمكّن الفصيح. ولا بدّ لراصد الحقل المعجمي أن ينتبه إلى أن تلك المفردات، برمّتها، يعود نسبها إلى الحذاء، فهي جميعها ماركات لأحذية باستثناء «الكندرجي» الذي هو عرّاب الأحذية، أي صانع الحذاء أو مصلّحه. على أن ربط الحذاء بالطعام لا يمكن تلقّفه إلا سريالياً، وفي أبعد الأحوال قد يأخذ منحى الشتيمة، كتعبير عن الامتعاض من الوجبة أو من سوء طبخها، إلا أن الدمج بينهما في حالة صايغ، لا يُفهم إلا باعتباره تعبيراً مكثّفاً على الانبهار من بريق المفردة الأجنبية، بأمنية يطمح صاحبها إلى تحقيقها، مفادها التماهي المطلق مع «الآخر» المتحدث باللسان الأجنبي. والأخيرة فيتيشيّة لبنانية عريقة.
سيأخذ التماهي مجراه ويجرفنا معه. عندما نتوقف عن الضحك، ستطوف النزعة الإنسانية ونفكر عندها بمصائر الشخوص. سنضع أنفسنا مكان «آكل الضرب»، وسنفكر في أن حبه للفذلكة، بعد أن يشاهد نفسه كما شاهدناه نحن، لن يدوم بل سيتحوّل على الأرجح الى كره واشمئزاز، مثل حبيب انعتق وانضبّ على نفسه. فالإجابة المتفاعلة والمسترسلة إيجاباً، وقعها كوقع الخيانة، جعلت من رصاصة الصياد تخترق قلب قائلها. بينما الخجل من الذات، أو التصبّب عرقاً، من إفرازات الكارثة التي حلّت على القائل. وبلى، أمام الموت حرجاً، هناك داعٍ للهلع. فالهلع إنذار للمنزلق أن يتمسك ولو بالتراب كيلا يسقط في الهاوية.
تضعنا المقالب في حالة من الضحك معطوفة على حالة ذهول ملحمية


مؤلّف المقالب يعني صانعاً للمواقف. والموقف بالنسبة إلى سارتر هو الامتحان الوجودي الحاسم، وعلى المرء أن يكون ملتزماً وحراً في خياراته، لأن كل ما سيليه بعد انقضاض الموقف، سيكون مسؤولاً عنه. والمقلب يكون كوميدياً عندما يكون الشخص بموقف يفيض غرابة أو عندما يدّعي مثلاً، المعرفة بشيء بينما هو فاقدها. يعي أندري صايغ أنّ العامليْن كليهما موجودان بينما هو ناقص. هناك ميل طبيعي، أو لنقل نزعات واعية، يمارسها أشخاص مجتمعون يومياً. ممارسة تجعل المفردة تنتصر على السياق، والمبالغة على الواقعية وتبرر للسمعة الشخصية أن تبايع نفسها مجاناً لمجرد السماع بمصطلح أجنبي. هكذا، يتضح أن الموقف بذاته، موجود، لا يتطلب سوى كاميرا و«إعلامي» حتى يصير مقلباً.
يفهم أندري صايغ لغة مجتمعه الرمزية التي تلامس التجريد وتطرد المنطق من قاموسها شرّ طردة بعنجهية ورأس مرفوع. وهو يعلم أن دخوله، منمّقاً ومزيفاً، إلى مجتمع الاستهلاك الاستعراضي بأداء يساير مجتمعه، سيكون أشبه بدخول علي بابا إلى مغارته بحذاء من ذهب. والذهب هو كل ما ينافي البلاستيك وما يفضحه. فإذا كان السؤال هو الأداة الأهم عند المحلّل النفسي يفصح المريض من خلاله عن تجربته فيتم تشخيصه، يغدو السؤال مع مؤلّف المقالب، رصاصة قنّاصته الفتّاكة، تلك الجالبة للضحك من جهة، والقطبة الخَفية في الخلل الدرامي المتأصّل في بنية مجتمعه من جهة أخرى. على هذا النحو، ما «خيك أندري بالشارع» سوى صنف من أصناف المحاكاة الواقعية، تلك التي تحمل الوجهين معاً: الفكاهة والمأساة، بيد أن تاريخنا كريم، يجلبهما سواسية من دون تغليب واحدة على أخرى.
محاكاة أندري صايغ إذا ما وشت بشيء، همست بما هو الأهم: أن السؤال ممكن أن يجابه بالصمت، أو أن يكون كالحديث: فعلاً يمارسه الطرفان، وأن السؤال، هو حتماً من ذهب، ولكنه أُهمل حتى بات عملة نادرة مفقودة. ذلك أن السؤال بما هو أسلوب تفكير أو كنشاط يقوم به الذهن عقب استفساره عن مسألة عجز عن حلها، غائب أو في غيبوبة، كأنّ صاحبه يجلسه على دكة الاحتياط فيما أرضية الملعب تعجّ بالهذر السريع والهذيان الواثق.
ويبدو أن ماضي السؤال، أفضل من حاضره، والأجوبة التي اتّسم فيها آنذاك جاءت واعدة. كان سقراط يرى في السؤال مولّداً للمعرفة، والمعرفة بدورها، تنبثق من الذات التي تنوجد فيها. هكذا، يصبح السؤال، عنده، خالقاً للمعرفة ومُشكّلاً لها. ما نراه في فيديوات صايغ ليس عجز المتلقّي عن طرح السؤال فحسب، إنما جهل يقبع في النفوس، وهو بأمر مضحك وأليم في آن. ولكي نحيد نحن المتفرّجين، عن رصاصة القناص، وجب علينا التوقف عن الضحك، ثم القبض على ما استطعنا معرفته: في رؤية مأساة ما كان عليه حال المجتمع قبل الانهيار، وما بات عليه هذا المجتمع، من بعده. والحقيقة تقول إنّ السؤال ما زال مفقوداً.