كان علينا أن نستعير عنوان روايته «العار» لتوصيف حادثة طعن سلمان رشدي ومحاولة قتله، ليس بما يتوافق زمنياً مع فتوى إسلامية بهدر دمه، قبل نحو ربع قرن مضى، إنما مساء الجمعة فقط، وفي نيويورك لا في مكانٍ ما من الشرق الأوسط الغارق في الظلام والنكبات. بالطبع، سنستحضر الحيثيات نفسها في حادثة طعن نجيب محفوظ للذرائع نفسها. كائنات دهمائية لا تقرأ الكتب، إنما تخضع للفتاوى والوصايا من دون تفكير، بحثاً عن أدوار بطولة تضع هؤلاء المهمشين في الواجهة أمام عدسات الكاميرات وأقفاص المحاكم، ثم ينتهي المشهد.في تلك الفترة المضطربة، من أواخر ثمانينيات القرن العشرين- قبل ولادة هادي مطر بسنوات- تمكّنت دار نشر عربية مجهولة من تهريب نسخة معرّبة ومصوّرة يدوياً، من «آيات شيطانية»، وتناقلتها الأيدي على عجل، ليس بوصفها عملاً تخييلياً بقدر ما هي عمل إشكالي مثير للجدل. كانت نسخة مشوّهة لا تعبر عن أسلوبية سلمان رشدي الفذّة التي وجدناها في «أطفال منتصف الليل» (جائزة البوكر- 1981) قبلاً، ثم في أعمال لاحقة. حينها، دافع عن الرواية صادق جلال العظم في سجالات محتدمة جمعها لاحقاً في كتابه «ذهنية التحريم»، معتبراً أن أدب سلمان رشدي «ينتصر للشرق، ولكن ليس لأي شرق بالمطلق، بل للشرق الذي يجهد لتحرير نفسه من جهله وأساطيره وخرافاته وبؤسه وديكتاتورياته العسكرية وحروبه الطائفية والمذهبية». حذف أل التعريف من «الآيات الشيطانية» وضع الرواية في مرمى التجديف، وتالياً هدر دمه بفتوى من الإمام الخميني شخصياً. هكذا طوي الملف، أو هكذا ظننا لسنوات، إلى أن اغتيل المترجم الياباني للرواية هيتوشي إيغاراشي، بعد ثلاث سنوات على ترجمتها إلى اللغة اليابانية. كما تعرّض مترجمه الإيطالي لضرب مبرّح، فيما لقي ناشره النرويجي حتفه بثلاث رصاصات. توارى سلمان رشدي لسنوات مدججاً بحرّاس شخصيين أشدّاء، وباسم مستعار هو «جوزف أنطون»، جمع فيه اسمي كاتبيه المفضلين: جوزف كونراد، وأنطون تشيخوف. لاحقاً، سيكتب سيرته الذاتية تحت هذا الاسم، وفيها يروي جوانب من حياته السريّة، والكوابيس التي لاحقته في عزلته القسرية بوصفه رجلاً ميتاً تحت وطأة فتوى غير قابلة للمزاح، فها هي صورة كاريكاتورية ترسمه بقرنين ناتئين، والرجل المشنوق في لافتات التظاهرات المندّدة بهذا الشيطان الذي ينبغي رجمه. يسجّل صاحب «زفرة العربي الأخيرة» طبقات الخوف التي حاصرته في سنوات الاختفاء. فقد كان الرجل الأكثر تعرّضاً للخطر في البلاد بعد ملكة بريطانيا، وفقاً لتقارير وزارة الخارجية البريطانية. في هذه السيرة، يكتب سلمان رشدي بضمير الغائب كما لو أنه يروي سيرة شخص آخر، وبجرعة عالية من الفانتازيا، نظراً لصعوبة السنوات التسع التي واجهته مثل كابوسٍ طويل يصعب الفرار منه، بعد محاولة فاشلة لاغتياله. المفارقة الموازية أن مدير «دار بنغوين» ناشر «آيات شيطانية» تعرّض لتهديدات جدية، ما جعله -لأسباب أمنية- يطلق على الروائي المطارد عنواناً غرائبياً هو مزيج من أسماء طيور قطبية.
مع مرور الأعوام، ظنّ سلمان رشدي أن قضيته باتت تنتمي للماضي، ولم يعد قلقاً على مصيره، فتخلّى عن حرّاسه الشخصيين وحماية الشرطة: «لقد عشت 11 سنة في جحيم من الظلمات الذي أنقذني منها كوني كاتباً، لأنّ الكتّاب معتادون على العزلة، معتادون على الجلوس طويلاً، ولهذا فقد أمكنني كتابة ستّة كتب خلال هذه المدّة». وفي سؤاله عن التطرّف الإسلامي اليوم، يجيب: «التطرّف الإسلامي الحالي يمكن مقارنته بالكاثوليكية المتطرّفة التي كانت منذ مائتين أو ثلاثمائة سنة، فقد تكون هناك صلة لذلك بمحاكم التفتيش الإسبانية».
في هذا السياق، سينجز روايته «سنتان وثمانية شهور وعشرون يوماً»، وهي جمع لأيام «ألف ليلة وليلة» من جهة، والحرب الروحية بين فيلسوفين إسلاميين هما الإمام الغزالي والفيلسوف ابن رشد، من جهةٍ ثانية. إذ كفّر الأول الفلاسفة، ورفض مبدأ السببية، معتبراً أن العلم والفكر عموماً، يلغي مفهوم «الإرادة الإلهية». وسوف ينتصر سلمان رشدي لابن رشد الذي تعرّض لمحنة تشبه محنة الروائي في بعض تفاصيلها.
هل سيستثمر الغرب الحادثة باعتبارها نسخةً مكرّرة من الإرهاب الإسلامي، لا تقل جنوناً عن أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، ووضعها كورقة مساومة في الملف النووي الإيراني؟ ربما، فوليمة طعن روائي ليست أكثر من مانشيت صحافي عابر، أما قضية حرية التعبير، فلها مسالك أخرى!