هذه الهوامش إذاً مفصلية في حياة ساري، لأنها ببساطة تطلعنا على هويته الحقيقية كبطل هارب. لا نستطيع التعرف إليه إلا من خلالها، عن معنى أن يكون بطلاً في وطن محتل ومحاصر. ومعنى أن يقلق ويصاب بهواجس كثيرة ولا يعرف إلى أين يذهب، فتبدو حياته كأنها مسيرة طويلة من التخفي والاختفاء ومداواة الجراح والركض والهرب.
لم يركز الروائي على حدث الطعن كثيراً، بل على ما حدث بعده وما حدث قبله، ربما ليجعلنا نرى هول الحادثة وتفاصيلها الميكروسكوبية التي لا نراها على الشاشات، هنا تكمن مهمة الأدب: أن يجعلنا نشاهد الخوف والألم والمشاهد التي تعجز الكاميرات عن تصويرها لأنها تحدث في الداخل. وهنا أيضاً تظهر قدرة الروائي على سرد ما لا نتوقعه. مثلاً كيف يقرر ساري تقطيب جرحه بنفسه عبر ذهابه إلى أحد مقاهي الإنترنت والبحث عن طريقة لتقطيب الجرح. نتخيل هنا أن الروائي الأسير يجعلنا نشاهد حكايات خفية لا يمكن إلا لمن عاشها أن يسردها وببراعة كبرى. ومن هنا نطرح سؤالاً بريئاً: ماذا يعني أن يكتب أسير روايته عما يحدث خارج السجن؟
الرواية لا تذكر السجن حتى، إنها مشغولة بفكرة «النضال»، و«البطولة» التي لا يمكن الإحساس بها من الخارج. تتبع معنى أن تكون بطلاً إنساناً سائراً في رحلة مجهولة وطويلة ولا يمكن العثور على خيط بدايتها أو نهايتها. لكن عندما نقرأ، نشعر أنها رحلة في اتجاه معاكس، مثل نهر العاصي. فنحن هنا أمام رحلة داخلية أكثر مما هي خارجية. نختبر مع ساري مشاعره الداخلية في أن يكون مطارداً حياً وينتظره الموت في أي لحظة. هل هذا هو السجن؟ نسأل أنفسنا ونحن نعلم أن ساري الآن في الخارج، لكنه يعيش تلك المشاعر التي هي حريته الحقيقية.
لا يعطي الروائي للنهاية شكلاً مأساوياً، فرغم أن السجن هو النهاية المتوقعة لساري، إلا أن الروائي يؤثر أن يجعلها مفتوحة، فيعطيها شكل البداية الأخرى، وهي رحلة بحث نادر عن ساري.
الرواية لا تذكر السجن حتى، بل تنشغل بفكرة «النضال» و«البطولة»
إذاً هي رحلة بحث أخرى، لكن هذه المرة من قبل أحد أصدقائه عنه. إذاً رحلة البحث لا تنتهي، ويقنعنا الروائي أن السجن ليس النهاية. والجميل في الرواية أيضاً أنّ هذه النهاية تفتح لنا باب البحث عن هذا الشخص داخلنا. فربما كلنا ساري بطريقة ما، إنّه ذلك البطل الذي قرر أن يقوم بمهمة مختلفة وعكس التيار، وعاش كل تداعيات ذلك بمسؤولية وألم في الوقت نفسه. فلم يعد له مكان بعد ما حدث في الجامع أو في المستشفى، وأحياناً أيضاً لم يعد له مكان بين عائلته. هذا العاصي الذي نفتش عنه، لندرك معنى أن نكون. جاءت روايته ربما كضوء داخل ظلام الزمن الفلسطيني الذي نفتش فيه عن معنى داخل هؤلاء الأبطال.
تذكرنا الرواية بشذرة شعرية للشاعر الأرجنتيني أنطونيو بوركيا، «سيقولون أنك على الطريق الخطأ، إذا كانت هي طريقك». وهذا ما تحاول الرواية أن تقوله بلغة هادئة، بعيدة عن المبالغة. لقد حاول ساري أن يكون ذاته، أن يرسم طريقه. ورغم أنه فكر كثيراً في ما سيحدث، لكن كل ما حدث لم يجعله يغيّر قناعاته ومبدأه وأفكاره، وتلك بطولة حقيقية وصادقة. «كان له اسم يشبه الحكاية» هكذا ختم سائد سلامة روايته، ربما كي يقول بطريقة أخرى إنّ ساري كان الحكاية كلها.