اشتغل سِث أنزيسكا على محطات حاولت إيجاد حلول للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فاقتصر تناوله على مرحلة اتفاقيات كامب دايفيد وصولاً إلى اتفاقية أوسلو. برأيه، أدت هذه الاتفاقية إلى سدّ الطريق أمام التطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني. في كتابه «قطع الطريق على فلسطين ــــ تاريخ سياسي من كامب دايفيد إلى أوسلو» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية/ ترجمة داوود تلحمي ــ 543 صفحة مع المراجع والأعلام)، يعرض المؤلف بتكثيف للمعطيات المتداخلة بشأن إيجاد حلول لهذا الصراع على مدى عقود بدأت مع كامب دايفيد وصولاً إلى أوسلو.

وفقاً لمضمون الكتاب، فإنّ كل ذلك أدى إلى فشل وتفشيل وإفشال هذه المحاولات. لكن في عرضه هذه الوقائع، مستنداً «إلى وثائق جرى الإفراج عنها في مكتبتَي ريغن وكارتر الرئاسيتين، وفي الأرشيف القومي للولايات المتحدة، وأرشيفات مناحيم بيغن، وأرشيف الدولة في إسرائيل، كما استعان بأرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية» (من مقدمة رشيد الخالدي)، تغاضى المؤلف عن جوهر الصراع واللب المحرك لفشل كل هذه المحاولات، والمتمثّل في عدوانية المشروع الصهيوني الإحلالي الاستيطاني العنصري الغاصب والمحتل، وما رافق تطبيقه من إجرام وتطهير عرقي بحق الشعب الفلسطيني، ومن دعم أميركي وغربي مطلق، وما قابله من عدم قدرة أي مفاوض فلسطيني على التنازل عن فلسطين محررة من هذا الاحتلال مهما تصاعد منسوب الخيانة في دمه، أو بلغت ترتيبات التنسيق الأمني في خدمة الاحتلال الإسرائيلي ذرى خضوعه. عندما قدّم جيمي كارتر المنتخب رئيساً عام 1976 رؤيته لإيجاد حلّ لمسألة تقرير المصير الفلسطيني، لم يكُن ليختلف عن الرؤساء الأميركيين من السلف والخلف بالتزام بقاء إسرائيل وحماية أمنها «لأن ذلك ليس مجرد قضية سياسية وإنما هو واجب أخلاقي» كما أكد كارتر، بكثير من اللغة الدينية الإنجيلية المعمدانية التي ينتمي إليها. لكن عندما قارب المسألة من زاوية تطبيع وتبادل أراضٍ إلى حدود الـ 67، أطاح وصول مناحيم بيغن عام 1977 إلى رئاسة الحكومة بخطط كارتر ورؤيته، ولم يكن دور اللوبي الصهيوني داخل أميركا بأقل منه. إذ عمل على تجنيد قواه لإسقاط كارتر وإيصال رونالد ريغان عام 1980 إلى سدة رئاسة الولايات المتحدة مُحاطاً بفريق المحافظين الجدد المتطرفين. كما لم تشفع اتصالات ياسر عرفات السرية مع مسؤولين أميركيين، وإعلانه للمرة الأولى عن «القبول بدولة فلسطينية» في آذار (مارس) 1977 بدلاً من «التحرير الكامل» (ولا تنازلاته اللاحقة بتعديل ميثاق «منظمة التحرير الفلسطينية» و«اتفاقيات أوسلو») إذ فاجأ الرئيس أنور السادات الجميع بذهابه إلى القدس وما تلاها من توقيع لاتفاقيات كامب دايفيد. هذه الاتفاقيات التي يُحمّلها أنزيسكا بداية تقويض أي ملامح لقيام دولة فلسطينية؟!
ولأن الوعود ليست كالوقائع، فإن سياسة إسرائيل وواشنطن لم تتغير إلا باتجاه المزيد من الإجرام بحق الشعب الفلسطيني، «فشهدت الثمانينيات تنامي تأثير المحافظين الجدد في سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وجرى تقديم إسرائيل كحليف استراتيجي ومنظمة التحرير الفلسطينية. كأداة سوفياتية في تهيئة لشروط تدخل عسكري دموي في لبنان» (ص198). وفي هذا الجانب، يورد المؤلف وقائع لخطة شارون وكان وزيراً للدفاع عام 1982 «وللضوء الأخضر الأميركي الذي أعطاه وزير الخارجية ألكسندر هيغ لشارون في لقائهما في واشنطن لاجتياح لبنان بقوله له: آمل أن تكونوا مدركين الحاجة إلى استفزاز ليكون هناك تفهم على الصعيد الدولي، ونحن نريد سوريا خارج لبنان أكثر منكم» (ص246). وكان إطلاق النار على السفير الإسرائيلي في لندن، وما أعقبه من اجتياح إسرائيل للبنان. وهذا ما يذكرنا بتمديد الضوء الأخضر الأميركي لإسرائيل في عدوانها على المقاومة في لبنان عام 2006 لتحقيق نصر ما على المقاومة، لكنها باءت بالفشل (رواية التمديد الأميركي لأولمرت يومها واردة في مذكرات كونداليزا رايس ـــ «دار الكتاب العربي»)، مع تذكيرنا بما ورد في مذكرات أمين عام وزارة الخارجية السابق ظافر الحسن عندما كان سفير لبنان في السعودية، ومفادها إبلاغ المستشار النمسوي برونو كرايسكي للرئيس حافظ الأسد عام 1981 عن خطة شارون لاجتياح لبنان، وذهاب الأسد إلى الرياض وإبلاغ الملك فهد بالأمر، ليقوم الأخير باستدعاء عرفات وإبلاغه بخطة الاجتياح.
كما ورد في وثائق كتاب أنزيسكا، كان شارون مصمّماً في خطة الاجتياح، على اقتلاع الفلسطينيين وقيادتهم من لبنان، ثم تأكيده أمام فيليب حبيب وموريس درايبر أثناء الاجتياح وخلال تنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا وهو يعنّف درايبر بالقول «إذا كنتم لا تريدون اللبنانيين أن يقتلوهم، فسنقوم نحن بقتلهم» (ص267). أمر دفع درايبر إلى التراجع موافقاً على انسحاب مؤجل لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة، تزامناً مع عطلة رأس السنة اليهودية (روش هاشاناه) التي تبدأ في ذلك المساء. ووفر الديبلوماسيون الأميركيون الغطاء لإسرائيل، عندما بقي مقاتلو «الكتائب» في المخيمين «يذبحون المدنيين حتى الصباح التالي» (ص267-268)، إضافة إلى ما ورد عن «أن مسألة اللاجئين الفلسطينيين نوُقشت لأول مرة في نهاية اجتماع سري ببشير الجميل ورئيس الاستخبارات اللبنانية جوني عبدو، ومسؤولين بارزين إسرائيليّين ولبنانيين في مزرعة شارون في النقب في وقت متأخر من ليلة 31 تموز/ يوليو» (ص272).
ربما، وتبعاً لقارئ الكتاب، ومن زاوية اطلاعه، أنه قد لا يعثر على معلومات بأكثر مما هو متداول، أو عن الأسباب العميقة لقطع الطريق، لأن الأسباب ما زالت قائمة وكامنة في المشروع الصهيوني، وانحياز الإدارات الأميركية بحزبيها الجمهوري والديموقراطي المطلق لحماية إسرائيل وبقائها، ومعهما الغرب بكليته، والتخبط العربي الرسمي وتشرذمه، وخروج بعض دوله من هذا الصراع باتفاقيات صلح مع إسرائيل، وتسارع مستجد في تطبيع دول أخرى مع كيان العدو، إلى الحال الفلسطينية المشابهة للحال العربية، باستثناء مقاومة بدأت بتغيير قواعد المشهد، وفي ترسيم المشاهد المستقبلية/ المصيرية.