لم يكن آرون إدوارد هوتشنر مجرد ناقد مولع بأدب همنغواي. كان أيضاً أقرب أصدقائه خلال السنوات الأخيرة من حياته. حتى أنه كان أول شخص أُخطر من قبل ماري همنغواي بانتحار صاحب «موت في الظهيرة». وهوتشنر هو الذي تولى لاحقاً نشر الحقيقة الفاجعة في كتابه المرجعي عن سيرة همنغواي، بعد خمس سنوات من الواقعة، بينما اكتفت ماري همنغواي يومها ببيان مقتضب قالت فيه إنّ زوجها توفي في حادث عرضي حين كان ينظف بندقية صيده!
كشف هوتشنر في كتابه كثيراً من أسرار الأشهر الأخيرة في عمر همنغواي، راوياً بالتفصيل معاناته مع المرض، بدءاً بتبعات السكري (ضعف البصر، العجز الجنسي...) وصولاً إلى «رُعاب الصفحة البيضاء» الذي زج به نحو إدمان الكحول والاكتئاب، ليغرق تدريجاً في نوع من البارانويا. وقال هوتشنر إنّها جعلته يحسّ دوماً بأنه مهدّد وملاحق من قبل جواسيس وأعداء غامضين. كان البورتريه الذي رسمه هوتشنر عن همنغواي حميمياً ومؤثراً، أسهم في تفسير إقدامه على الانتحار، هو الذي كان يمجّد قيم الشجاعة، وكان يعتبر الانتحار نوعاً من الجبن، إذ ترك انتحار والده بصمات عميقة في حياته وأعماله. إلا أنّه في ذكرى رحيله الـ 50 عام 2011، نشر هوتشنر مقالة مدوِّية في «نيويورك تايمز»، اعترف فيها بأنه اكتشف حقيقة فاجعة بعد اطلاعه على ما أفرج عنه أرشيف «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (أف. بي. آي) من وثائق سرية عن همنغواي. تبيَّن أنّ الأخير أُخضع للمراقبة منذ 1942. ثم تحوَّل الأمر عام 1961 إلى خطة متعمدة للتحرش به واستغلال مرضه لدفعه إلى الجنون. كان رجال الـ«إف. بي. آي» يطاردونه حتى داخل «مصحة مايو» التي كان يُعالَج فيها من الاكتئاب. لم يكن أحد، بمن في ذلك هوتشنر نفسه، يصدِّق ما كان يقوله همنغواي عن الجواسيس الذين يطاردونه، ما ضاعف تأزمه النفسي، وأسهم في دفعه إلى الانتحار.
يقع ملف الـ«أف. بي. آي» عن همنغواي في 124 صفحة، ويضم 43 تقريراً سرياً أُعدّت على مدى 20 عاماً، من قبل جواسيس الـ«أف. بي. آي». وقد بدأت الملاحقات عام 1942، حين أبلغ السفير الأميركي في هافانا «مكتب التحقيقات الفيدرالي» أن همنغواي أسّس فريقاً مصغّراً للتجسس على حركة السفن والغواصات النازية في الكاريبي أسماه Crook Factory، وأن السفارة قررت دعم تلك المبادرة. كانت رد فعل جون إدغار هوفر مدير الـ «إف ـ بي ـ آي» (1924 ـ 1974) مدوّياً. كتب فوراً إلى السفير الأميركي في هافانا محذراً من ميول همنغواي اليسارية. كان هوفر مكارثياً قبل المكارثية. جعل مطاردة اليساريين شغله الشاغل وتجسّس على شخصيات كثيرة، من تشارلي شابلن إلى آرثر ميللر. رأى هوفر في همنغواي شيوعياً خطيراً، بسبب انخراطه في القتال إلى جانب الجمهوريين خلال الحرب الأهلية الإسبانية. لذا أطلق جواسيسه لجمع معلومات وشائعات للطعن في مصداقيته. «لا تغرنّكم شهرة همنغواي ـ كتب هوفر إلى جواسيسه في كوبا ـ وكون البعض يقارنه بتولستوي، يجب أن نبذل جهودنا لإبرازه في صورة رجل مخبول Phoney». توالت تقارير الـ «إف. بي. آي» التي تتهم همنغواي بـ «الإدمان» و«الجنون» و«ادعاء البطولة الكاذبة». وبلغ الأمر بهوفر حد الإيعاز إلى ناقد أدبي يميني مقرب منه بكتابة مقالة في اليوم التالي لرحيل همنغواي وصفه فيها بأنه «أسوأ من كتب باللغة الإنكليزية»! وإمعاناً في التشفي، ضمّ هوفر قصاصة تلك المقالة إلى الملف السري الخاص بهمنغواي في أرشيف الـ «إف. بي. آي»، كي تبقى للتاريخ!