«إنَّ السُّذَّج دوابٌّ تساق إلى المجزرة» (أمبيرتو إيكو).
حقيقةٌ يعاينها الجنود الإيطاليُّون بأنفسهم بعد رسوِّ أسطولهم على شواطئ طرابلس. حقيقةٌ يسنُّها بطل رواية «صندوق الرَّمل» ساندرو كومبارتي كقاعدةٍ يضيفها إلى ما تعلَّمه من قواعد دريل الحربيَّة: «لكي تكون جنديَّاً، عليك أن تتحرَّر من الوعي».
ساندرو الذي «تعمِّده نيران المعارك دون أن تنزع ذاكرته»، شابٌّ إيطاليٌّ وسيمٌ من أسرةٍ مسيحيَّةٍ طيِّبةٍ، تشاء أقداره أن يُساق إلى التَّجنيد الإجباريِّ بُعَيد تخرُّجه من معهد الصَّحافة في ميلانو، ليشارك في الغزو الإيطاليِّ لليبيا. وهناك تدخل ذاته في صراعٍ مع كلِّ ما نشأ عليه من تعاليم ومبادئ، فتلاحقه اللَّعنات: لعنةُ حربٍ تحاول تجريده من إنسانيَّته، ولعنةُ حبٍّ بعيد المنال، ولعنةُ أن يكون هو جلَّاد محبوبته وسبب شقائها.
«لماذا قذفتني بلادي إلى صندوق الرَّمل الحارق؟ لماذا حكمت عليَّ بأن أكون قاتلاً؟ كنت مواطناً طيِّباً حفظت الوصايا العشر في أبرشيَّة سان لورينزو، حيث أخبرنا الأسقف في الوصيَّة الخامسة أنَّ القتل محرَّم، لكنَّني وجدت نفسي قاتلاً». هذه اللَّعنات وذلك الحبُّ يقيان شعلة الإنسانيَّة التي بداخله من الانطفاء، فنجده حين يعود إلى إيطاليا جريح القلب والجسد، يختار أن يتعمَّد بمياه الحقيقة علَّها تغسل شيئاً من خطاياه.
«باغته وجهها في الظُّلمة حزيناً ومتسائلاً ومعاتباً بتسامحٍ مقهور، وشعر برغبةٍ مُلحَّةٍ في أن يكون وحيداً [...]، متوجِّساً من لعنة الحبِّ التي قتلت ريكاردو، ومن قبله روميو، متسائلاً في الوقت نفسه لماذا لا يكون شجاعاً مرَّةً واحدةً، عارياً أمام نفسه؟! لماذا عليه أن يفلسف مشاعره، لكي ينال شرف التَّطهُّر من الخطيئة؟! ربَّما ليس بإمكانه أن يسدِّد دينه للفتاة، لكنْ، عليه أن يُقبل على حياته القادمة مخلصاً ومتجرِّداً من أجل الحقيقة، فالحقيقة هي أفضل تعميدٍ للرُّوح».
عائشة إبراهيم، ببناءٍ سرديٍّ مُحكَمٍ في هذه الرِّواية وخيال تكاد تحسبه واقعاً، هي صوت الحقيقة الذي لا تقيِّده ظروفٌ أو حروب، صوتٌ تختار أن تُسمعنا إيَّاه، على غير ما اعتدناه في الرِّوايات، من فم المعتدي لا من فم البريء، صوتٌ يصف لنا بلغةٍ صادقةٍ حجم الخراب الذي تسبِّبه الحروب لكلِّ أطرافها، صوتٌ يهمُّه أن ينقل الواقع، هذا الواقع الذي يختار أن يكون واقعاً خالداً في تاريخ الإنسان.
فحليمة بائعة الحليب التي أوقعت ساندرو في الحبِّ وكانت محور الرِّواية، لا تمثِّل الأسيرات اللِّيبيَّات المغيَّبات في مستوطنات العقاب الإيطاليَّة فحسب، بل هي أمَّةٌ من النِّساء اللَّواتي غيَّرت الحروب حيواتهنَّ، أمَّةٌ من الصَّبايا اللَّواتي اغتصبت أحلامهنَّ الحروب. هي صوت التَّعب الذي لم يثمر، وأمنيات اللَّيالي التي لم تكتمل.
حليمة هي صوتنا في بلادنا المنكوبة بالحروب من ليبيا إلى اليمن فسوريا وفلسطين، تلك الحروب التي ألغت كلَّ احتمالات الأمل والألم فينا.
ولكنَّ عائشة تنهي روايتها بنغمةِ أملٍ، تحملنا معها لنحلم بغدٍ أفضل.
ورغم كلِّ الألم الذي تحتويه هذه الرِّواية بين دفَّيتها إلَّا أنَّها من القوَّة والجمال السَّرديِّ، ومن تدفُّق الذَّاكرة وتداعيها الذي يقارب أن يكون مونولوجاً داخليَّاً عاصفاً، لن تسمح لك بأن تضعها من يدك قبل أن تنهي قراءتها.
رواية «صندوق الرَّمل» الصَّادرة عن «منشورات المتوسِّط» هي الثَّالثة للكاتبة اللِّيبيَّة عائشة إبراهيم، بعد «قصيل»، و«حرب الغزالة» التي وصلت إلى القائمة الطَّويلة للجائزة العالميَّة للرِّواية العربيَّة-بوكر للعام 2020، ولها مجموعةٌ قصصيَّةٌ بعنوان «العالم ينتهي في طرابلس»، وتنشر مقالاتٍ في صحفٍ ومواقع إلكترونيَّةٍ متنوِّعةٍ، وحازت جائزة الدَّولة عن نصِّ مسرحيَّة «قرية الزُّمرُّد» لعام 1991، إضافةً إلى العديد من الأوسمة أهمُّها وسام الإبداع من وزارة الثَّقافة اللِّيبيَّة لعام 2020.