لم يكن بيتر بروك (1925-2022)، محاصراً داخل أطره الثقافية، بل قاده البحث الإخراجي، إلى إنتاج إبداعات كبرى، مصدرها ثقافات أخرى، ككتب الزرادشتيين القدامى، وصوفية فريد الدين العطار، والملحمة الهندية الكبيرة «المهابهاراتا». اقترب من هذه الثقافات، بمحبة واحترام ورغبة، لفهم منطقها الداخلي، ووظيفتها الثقافية التي تأصّلت منها. انفتح على أساليب مختلفة، وثقافات أخرى، ما جعله يتوجّه نحو لغة إنسانية شاملة. «كل عرق، وكل ثقافة، يمكن أن تقدم كلمتها الخاصة، في جملة توحّد النوع الإنساني». لقد أراد بيتر بروك، أن يكون «المسرح أعظم من الحياة».
اعتبر أنه يمكنه اتخاذ أي فضاء فارغ وجعله خشبة

حمل إشكاليات المسرح بين عالمَين متناقضين، عالم الشمال، وعالم الجنوب. كان يعتقد أنه لم يعد بوسع المسرح التقليدي أن يحدث التغيير، فدعا إلى ضرورة اكتشاف جذور المسرح والتجربة الإنسانية، لتتداخل العوالم مع بعضها. لقد هيمن بيتر بروك على نهايات القرن العشرين، بعدما كان ستانيسلافسكي، الأب الأعظم للمسرح العالمي قبله. بحسب ما يؤكد المترجم المصري، فاروق عبد القادر، كرّس بروك خبرة إنسانية عميقة وشاملة، استطاع من خلالها أن يحوّل أي مساحة فارغة، إلى خشبة مسرح عارية. هدم الستائر الحمر، وبقع الضوء، والإظلام، وشباك التذاكر، والمقاعد... وحوّل المسرح المميت، والخشن، والمقدس، إلى مسرح خدّاع، ومغامر، يمكن له أن يطالعنا في أي مكان. «لقد انتقل بنا من مسرح تفوح منه رائحة الجيفة، وكأنه «عاهر»، يتقاضى المال ليُشعرَ المتفرج، بشوط من اللذة، إلى مسرح يختلط فيه الإشباع الثقافي، بالخبرة الحقيقية».
اعتبر بروك أنه يمكنه اتخاذ أي فضاء فارغ وجعله خشبة وأنّه حالما يصبح الحدث تحت نظر شخص واحد، يمكن اعتباره حدثاً مسرحياً. تجرّأ على الفضاءات والمساحات الثقافية، والتداخلات الرأسمالية والاقتصادية في إطار عملها وانتقد «بورجوازية» الصالة المسرحية التي تقيّد المضمون وتتماهى فقط مع الرجل الأبيض. يقول في كتابه «نحو مسرح ضروري»: «إن المسرح الذي يعطي تدريبات لثلاثة أسابيع مثلاً، هو مسرح معوّق منذ البداية. فليس على المخرج أن يسلّم البضاعة في الموعد المحدد، لأن الابتكارات والطاقات تتلاحق في سلسلة متوهجة، وتنفجر على نحو مدهش». أمر دفعه إلى الولوج في فضاءات جديدة للعرض المسرحي. من أولى الإشكاليات التي طرحها بروك في مسرحه، وقد باتت من الأسس في المسرح المعاصر هي كيفية بناء قاعة المسرح، وعلى أي أساس يجب أن يتمّ تصميمها وهندستها، مؤكداً على ضرورة عدم الثبات في المسرح، من خلال التغيير المستمر، في شكل الفضاء، بما يتلاءم مع مضمون الفعل الذي يقدّمه الممثلون على الخشبة.
حمل إشكاليات المسرح بين عالمين متناقضين: الشمال والجنوب


لم يعمل بروك، ليكون المسرح إشباعاً وقتياً عابراً. توالت دعواته، إلى إخراج الفن المسرحي من قيمته الأثرية، والابتعاد عن الجمود في تقديم مسرحيات «شكسبير» و«موليير»، وغيرهما. إذ، كانت تقدم وفق إخراج مسرحي، يفتقد إلى الحيوية والابتكار. برأيه، ثمة عناصر مميتة في كل الحياة. «خاصةً في القيم الفنية الموروثة، في الإطار الاقتصادي، في حياة الممثل، وفي وظيفة الناقد». فكيف يمكن مجابهة كل هذه العناصر؟ لقد كان العالم بالنسبة إليه «أشبه بقشرة خارجية، تحتها مواد تغلي وتنصهر، يمكننا أن نراها إذا حدقنا داخل البركان».
عادة ما كان بيتر بروك يبدأ في عمله المسرحي، بإحساس داخلي عميق، باحتفال، أو بأي شيء «وكأنه رائحة أو ضوء أو ظل». لا تصميم جاهزاً عنده لإخراج المسرحيات، ولا تكنيك واضحاً. بل يعمل عن طريق الإحساس الداخلي غير المتشكل، غير المتبلور، ويشرع في الإعداد. يقيم المشهد، ثم يحطمه، ثم يقيمه، ثم يحطمه. فيخضع عمله للتشكيل والتعديل، فيبدو الإحساس داخله أكثر تماسكاً وتحديداً.
تطلّع بروك إلى النقد الفني، باعتبار «أن أي فن بلا نقاد هو فن مهدد بمزيد من الأخطاء دوماً». فالناقد بالنسبة إليه، ليس مجرد بائع معلومات سرية، يسرّبها كي يستفيد منها الجمهور. بل، له دور أهم، «يجب أن يعي قدرته على الهدم، وأنه قادر على البناء». لذلك، تكمن وظيفة الناقد، بحسب بروك، في أن يكون له تصوّر لما يجب أن يكون عليه المسرح في مجتمعه، وأن يعيد النظر في هذا التصور بعد كل خبرة جديدة. لذلك، لم يؤمن بوجود حقيقة واحدة، واعتبر أن كل النظريات يمكن أن تكون مجدية في زمان ومكان ما.
يذكر بيتر بروك في حديث له، أنه على المخرج أن يبحث في أعماق النص الأدبي المكتوب، وأن يبحث في الخلفيات الدفينة له، محاولاً تشريح وتحليل أجزاء هذا النص، ليستطيع نقله بشكل حيّ على خشبة المسرح. ويؤكد على أن المسرح يحتاج إلى ركيزة واحدة هي العنصر البشري. حاول بروك العمل بشكل دائم على بديهيات المسرح، التي اعتبرها غير ثابتة، لأن المسرح يجب أن يكون متغيراً، ومتبدلاً، ومتطوراً كالحياة التي لا تلبث أن تتطور وتتغير بشكل سريع.



العابر فينا إلى فضاءات معاصرة
ولد المخرج والكاتب المسرحي بيتر بروك، في بريطانيا عام 1925. ودرس الإخراج المسرحي في جامعة «أوكسفورد» البريطانية. دخل عالم الإخراج المسرحي منذ أن كان في سن الخامسة عشر، حيث قام بإخراج العديد من مسرحيات شكسبير الذي كان أساسياً في تشكيل اللبنات الأولى لتأمّلات بروك في المسرح. طاف بلداناً عديدة، بحثاً عن أصول الفرجة المسرحية. وامتلك جرأة كبيرة في تغيير شكل العرض المسرحي، وإلغاء الحواجز والقيود بين الممثلين والجمهور. بحث بروك في أصول المسرح وماهيته، وعلاقته بالحياة اليومية للإنسان المعاصر. ينظر بيتر بروك إلى المسرح على أنه فن شامل لجميع العلوم، والمعارف، والتقنيات. علاوة على ذلك، يتخذ المسرح عنده طابعاً إنسانياً يعبر عن أعماق النفس البشرية، وعلاقتها بكل ما يدور حولها.
رأى المخرج الراحل، أن المسرح يستطيع توحيد الشعوب جميعها لأنه يتضمن لغة موحدة عالمية. لذلك، حدد المسرح بالعنصر البشري، لأنه يمتلك القدرة على تجسيد ما هو جوهري، موجود في غياهب النص الأدبي على خشبة المسرح. لذلك، تأثر بروك أيضاً بالمسرح الآسيوي والأفريقي واستوحى منه الأشكال الاحتفالية، والطقوسية، والأنتروبولوجية. وتعامل مع المحترفين في التمثيل المسرحي، بالإضافة إلى أنه أكد على ضرورة انتماء هؤلاء الممثلين إلى جنسيات وأصول مختلفة في محاولة منه على التأكيد أن التفاهم يمكن أن يحصل عبر أناس يبدون مختلفين. إلاّ أن القضايا الإنسانية الأكثر عمقاً تجمع هؤلاء الأشخاص. على الرغم من تأثر مسرح بيتر بروك، بتقنيات المسرح الملحمي الذي صاغ أسسه الألماني برتولد بريخت، بالإضافة إلى مسرح القسوة والموت على يد آرتو، إلّا أنّ بروك استطاع تحديد أعماله ضمن وضعية المجابهة، إذ ليست هناك أي خلاصة من المسرحية، بل إنّه سعى كامل السعي للتأكيد على عملية تعايش الأضداد.
كان لحرب فيتنام تأثير كبير على مسرحه، تحديداً في مسرحيته الشهيرة «أس». خرج من فكرة تأثير الحياة على المسرح والعكس، ليجعل من المسرح حدثاً يتحدث عن الحاضر في لحظة الحاضر. لم يعد بروك يستخدم أحداثاً تاريخية قديمة، ليجعل المتلقي يفكّر في الحدث الذي يجري أمامه على الخشبة، بل ربط المسرح بالوقائع الحياتية في الزمن الحاضر، ليصبح المسرح أسلوب حياة جديداً، قادراً على التعبير عن متناقضات الإنسان المعاصر في الوقت الراهن. بعد هذه النقلة النوعية، بدأ بروك بتحديد فكرة أعمق عن المسرح، بقوله إننا نعيش في زمن يتطور فيه كل شيء بسرعة هائلة، ويجب أن يكون البحث مختصاً بتحطيم الأشكال القديمة في المسرح، وإيجاد أشكال، وعبارات وعلاقات جديدة، والمسرح دائماً بحاجة إلى ثورة مستمرة تواكب اللحظة الراهنة والحاضرة.