ما زال علي أحمد سعيد إسبر (1 كانون الثاني/ يناير 1930)، المعروف بلقبه المأثور «أدونيس»، مسكوناً بشغَف الشغَب على المفاهيم الرّثة والقوالب المتوارثة، ليس فقط بوصفه شاعراً كاسراً للصورة النمطية، بل بوصفه مثقّفاً دينامياً تخطّى مفهومُه للحداثة شكلاً عروضياً أو مجلة أدبية أو خميساً شِعرياً. الحداثة عنده حركة حياةٍ ونهجُ حياة، ولو كان الشِّعر أمير النهج والحركة. يقول هيغل: «عندما يزول كل شيء في الدنيا، يبقى الشعر». أما أدونيس، فيجزم أن كينونته مرتبطة بذلك الإكسير الذي أضفى عليه هيغل صفة الخلود، من غير أن يُضفيها على الفلسفة... «أنا كائنٌ في الشعر» يقول أدونيس في تكثيفه ويكتفي.من قريته قصّابين في ريف جبلة السورية، إلى بيروت فباريس فسائر أوروبا والعالَم، اختار الشاعر وزوجته الناقدة خالدة سعيد حداثة الرؤية حتى في انطلاقهما من الجذور. فالحداثة موقفٌ وبِنْية ذهنية، والأدب الخلاق معمّد بالفكر، والنقد منبجس من ثقافة لا تغفل السابق، لكنْ يعنيها اللاحق. وربما كان الفكر، منذ هيراقليط، في صراع لا ينتهي حول «الثابت والمتحوّل»، وحول النهر الجاري الذي لا يستطيع المبدع عبوره مرتين في المياه ذاتها. لكنْ لا يسع أحداً إنكارُ إنجازٍ جلل، هو أن هذا الثنائي قد شغلَ، وما فتئ يَشْغل، سطوراً مضيئة في المفكرة الحضارية لبلادنا. ولعلّ كُلاً منهما يتميز عن آخَرين، انضووا تحت لافتة حركة «شِعر» أو استقلوا عنها، بالتضلّع من التراث قبل محاولات تجاوُزه. أليس التراث الحقيقي في بوارقه سِجِلَّ إبداعات؟ أليس التجديد إعادة بناء الحياة من قلب الحياة؟ ثم أليس من الخُلْف المنطقي أن يَنْشَقّ من الحياة ما يجافي طبيعتها؟

يجزم أدونيس بأنّ كينونته مرتبطة بذلك الإكسير الذي أضفى عليه هيغل صفة الخلود، أي الشعر

بلى، تأثر أدونيس بالنِّفَّري القائل منذ العصر العباسي: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العِبارة». وأُعجِبَ الرجُل بالمُجَدِّد أبي تمّام وبعبقرية المتنبي وموسوعية أبي العلاء وإشراقات الصوفيين الكبار... كما كان لأنطون سعادة تأثير يقينيٌّ عليه، خصوصاً في الدعوة إلى الأدب ــ المنارة لا الأدب ـــ المرآة، باعتبار أن للأدب وظيفة رؤيوية تغييرية نهضوية: «كل أدب لا يعرف الحياة لا يحيا»، يقول سعادة. لكنّ أدونيس تمرَّدَ ، في مزاجه الشاعريّ، حتى على الوجدان القومي المستمد من الإيمان بوطنٍ وأُمة. وها هو في حوار مع كريمته يُشَبّه نفسه بالطائر المهاجر الذي لا يؤلمه الانسلاخ عن المهد: «إنني بعيد عن ذلك الشعور بالانتماء إلى مكان، إلى أرض. إنّ وطني لم يكن يوماً سوى لغتي». وما زلتُ أحتفظ برسالة خطية من أدونيس، تعود إلى عام 1982، وفيها يصرّح بوضوح أنه طَلّقَ التنظيم واحتفظ بسعادة.
والواقع أنّ أي مُتتبّع لمسار الشاعر المشاغب يدرك أنه، منذ عقود طويلة، طوى عضويته الحزبية وأَطلقَ ذاته من «قيود» الالتزام ومقتضيات النظام الحزبي. وما من شك في أن أدوات أدونيس الثقافية مغايرة لأدوات الحزب وثوابته، خصوصاً في مبدئيات الصراع مع المشروع الصهيوني. تكفي الإشارة، في ذلك المسار الذي شَهِدَ زئبقية التواصل والتباعد مع المؤسسة الحزبية، إلى مشاركته ودفاعه عن المشاركة في «لقاء» غرناطة الشهير، المزيَّن بعنوان ثقافي والملغوم بمضمون سياسي تَمَثَّلَ بحضور «إسرائيلي» جعل عُمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي تدين بحزم اللقاء والحضور والخلفية. كما جعل «اتحاد الكُتَّاب العرب» يُصدر قراراً بطرد أدونيس من الاتحاد، وهو ما هو بوصفه علامة ثقافية طليعية في الطرح المستنير المتواصل، والدعوة الجذرية إلى التمييز القانوني والمعرفي بين الدين والدولة في الأقطار العربية، وفي تكريس الدور المحوري للمرأة في المجتمع موقعاً وقراراً وإنتاجية، وفي الحث على التعامل مع اللغة العربية بوصفها كائناً حياً قابلاً للتطوير، بدءاً من تهوئة معجمها الدينيّ المُثقل بالماورائيات.
من باكورته «قالتِ الأرض» إلى «أوراق في الريح» إلى «ديوان الشعر العربي» إلى «المحيط الأسود» إلى ترجمته ملحمة «التحولات» للشاعر الروماني أوفيد الذي غَرَفَ من الميثولوجيا اللاتينية والإغريقية عناصر رائعته الملوّنة بأطياف هوميروس وفرجيل، انخرط أدونيس في رحلة شاقة يمكن اختصار عناوينها بالدعوة إلى تحويل حركة الحياة من الأسطوريات إلى العقلانيات، والنظرة إلى التاريخ من كونه تفرُّجاً على مسرح قداسة إلى كونه دروساً معرفية منافية للجمود والتحجُّر: «بلى، كل ثمرٍ مُرّ في هذه المدائن التي يديرها الغيب». ألا يُذَكّرنا هذا الاقتباس بقوله هو أيضاً: «أنْ تفكر هو أن تُخلخل المستقِر الآسِن»؟ وهذا الطرح، الذي ورد في مقال نشره الشاعر عام 2009 والذي سيُضاء على منبعه في ثنايا هذه المقالة، هو طرْحٌ تجاوزي حتى للكوجيتو الديكارتي حول التفكير والشك والوجود. بل لعله متقاطع مع طرح الأديب الياباني هاروكي موراكامي الذي ربط في روايته «ما بعد الهزة» حياة شخصيات الرواية بالاهتزاز النفسي ــ الثقافي ــ الاجتماعي ــ الاقتصادي، أي بالعصف الوجوديّ الشامل. وقد غالى باحثون في ربط كل ما صدر عن أدونيس وشركائه في حركة الحداثة كيوسف الخال، وبدر شاكر السياب، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وفؤاد رفقه، ونذير العظمة، وكمال خير بك، بالأسطورة الفلسفية والمِخْيال التاريخي والشعبي حتى طاب لبعضهم إطلاق مصطلح «الشعراء التموزيين» على الذين وظّفوا الأسطورة الأدونيسية في محاكاة القيامة بوصفها حَدثاً أقوى من المخاض وأبقَى من الزمان والمكان. وقد يكون ذلك عائداً إلى إرهاصاتٍ حداثية عند نفَر من أولئك المحدثين الذين كانوا شباباً متأجّجين بفكرة الولادة الجديدة وحلم التغيير. يقول أدونيس، الذي أصدر يوماً مجلة «مواقف»: «تموز ترتيلةٌ للشمس والأفقِ/ تموز ينمو ويحيا وهو يُحتَضَرُ».
ما من ريب في أن «مهيار الدمشقي» الجديد لم يأتِ من فراغ، وأنه كما أسلفنا، متأثر بكوكبة من المفكرين والأدباء الذين تركوا بصماتهم على الوجود الحضاري للإنسانية، فحطّموا أصناماً تلوّثُ الأجيال بعد تسريع اهترائها من الداخل. بين هؤلاء فلاسفةُ التحول في مجاري التفكير وهم كُثُر، وبينهم نقّاد وأدباء شكّلوا انعطافاتٍ مشهودة في البنَى الشعرية كما فعل تي.إس. إليوت مطلع القرن العشرين في «الأرض اليباب»، وكما فعل آرثر رامبو في رسالتين رائيتين كتبهما لصديق عام 1871 ويعتبرهما بعض النقاد تأسيساً لمشروع الحداثة الشعرية. يقول رامبو الذي قضى شاباً: «أريد أن أكون شاعراً وأجهد لأصبح رؤيوياً. أنت لا تفهم معنى كلامي ولا أستطيع أن أشرحه لك... الأمر يتعلق بما يلي: أن نصل إلى المجهول عبر خلخلة الحواس كلّها». والتأثر الأدونيسي واضح حتى في المفردات التي قصد فيها رامبو المضمون الجديد واللغة الجديدة وكيمياء الكلمات.
لطالما أثار الشاعر الذي نال جوائز عالمية عدة، جدلاً لم ينتهِ بعد. فهذه إسبانيا مثلاً تمنحه عام 2008 جائزة «اليتيو» الأدبية، اعترافاً بدوره في وصل العالم العربي بالغرب. لكنه في مفارقة مؤسفة أثار ردود فعلٍ شاجبة في بيروت بعدما نُسِبَ إليه كلام سلبي عنها مع أنه صرّحَ بوضوح أنّ ولادته الثقافية الحقيقية كانت في بيروت. والمفارقة الأقسى أن الجزائر أقالت أمين المكتبة الوطنية الذي دعاه عام 2008 أيضاً إلى ندوة دعا فيها الضيف إلى فصل الدين عن الدولة في الدول الإسلامية، وتحقيق وضعية كريمة للمرأة باعتبارها ذاتاً مستقلة عن التوابع. كذلك، صدرتْ ضده كتبٌ في القاهرة وأربيل، متهمةً إياه تارةً بالانتحال وطوراً بعُصاب الفراغ. وأذكر جيداً أنني حضرت له عام 1984 ندوة في الشارقة دعت إليها الدائرة الثقافية في الإمارة، فانبرى ملتحٍ في المقاعد الخلفية للقاعة الكبرى الحاشدة يعيب عليه «إهانته» للذات الإلهية في إحدى قصائده، غير أن أدونيس أوضح له، بهدوء، أن في اللغة الشعرية مجازات معتمَدة لا يجوز تفسيرها حرفياً. ولما أكمل الشاعر توضيحه بسؤال المعترض: «كيف تفسر الآية القرآنية التي جاء فيها أن الرحمن على العرش استوى تفسيراً حرفياً»؟ أضاف: «قل لي بربّك كيف استوى الرحمن على العرش». وفي تلك اللحظة بالذات وقف السائل وغادر القاعة.
أُعجِبَ بالمُجَدِّد أبي تمّام وبعبقرية المتنبي وموسوعية أبي العلاء وإشراقات الصوفيين الكبار


وفي ندوة نظّمتها مؤسسة «أدهوك» عام 2016 في بروكسل، انبرتْ فتاة سورية معارِضة تتبنى ما دعته «الثورة» وتحتج على إدانته العمليات الوحشية التي ارتكبها إرهابيون، فطلب منها عدم ابتذال كلمة «ثورة» إلى هذا الحد. وسألها: «هل صدر عَمّنْ تسمينها ثورة أي بيان متكامل لبناء الدولة بدل الدعوة إلى التدخل الأجنبي؟ هل دعتْ ثورتكم المزعومة إلى تكريس حرية المرأة بدل التفريق بين أبناء الشعب الواحد على القاعدة المذهبية؟».
وإذا كان لنا أن نختم هذه الإضاءة بالقلم الأدونيسيّ الذي لم تُنصَفِ اختراقاته الشعرية بعد، فربما كانت هذه المقطوعة المحبّبة إلى نفسه نموذجاً مِن صُوره القريبة ــ البعيدة ومِن قطراتِ نَداه على قصيدِنا المعاصر:
«أعيش مع الضوء عمري عبيرٌ يمرّ وثانيتي سنواتُ/ وأعشق ترتيلةً في بلادي تناقَلَها كالصباح الرعاةُ/ رموها على الشمس قطعةَ فجرٍ نقيٍّ وصلّوا عليها وماتوا/ إذا ضحك الموتُ في شفتيكَ بكتْ مِنْ حنينٍ إليكَ الحياةُ».

* أستاذ جامعي في الفلسفة والأدب