يمكن اعتبار «مهرجان بيروت الدولي للرقص المعاصر- بايبود» (2022) علامةً جديدة للمسرح المعاصر، الذي أصبح فيه الجسد، سيّداً لإمكانات الإبداع. في الدورة 18 من المهرجان، بحثٌ عن العلاقات الحسّية غير المنظورة، واكتشافٌ للألوان والحروف، وتصوّرات للحقيقة العليا، وسط إبهامٍ وديناميكيةٍ تُضفي على الجسد الإنساني جمالاً جديداً.وسط هذه المفاهيم، انطلق BIPOD في بيروت أول من أمس بعد انتهاء فعالياته في مدينة ليون الفرنسية. المهرجان، الذي وضع لبنان على خريطة الرقص المعاصر، يتخذ من «متحف سرسق»، و«مسرح بيريت»، وقرية بعقلين الشوفية، منصةً لفعالياته التي لا تقتصر على عروض الرقص المعاصر فحسب، بل تتعداها لتشمل مساحات نقاش، وحوارات، وتبادل خبرات، وتفاعلات فنية. على أن يستمر حتى الأحد 29 أيار (مايو) الحالي. علماً أنّ كل العروض متاحة مجاناً لكل القاطنين في لبنان، كما تُبث الفعاليات على منصة «سيتيرن لايف» الإلكترونية.
بعد حوالى ثلاث سنوات على تفكيك مسرح «سيتيرن» في منطقة الكرنتينا في بيروت، وإطلاق حملة «العصيان الثقافي» من قبل مؤسّس فرقة «مقامات» ومدير مهرجان «بايبود» عمر راجح، يظهر المصطلح اليوم، مع عودة «مهرجان بيروت الدولي للرقص المعاصر» بنسخته الثامنة عشرة. «العصيان يعتبر عمل رعاية، وإصلاح، وتغيير إلى الأفضل» وفق ما يؤكد لنا راجح. الأسئلة الرئيسية التي يحملها المهرجان هذا العام تركز على دور الثقافة كتساؤل فلسفي عن الوجود وانعكاسه، وعلى الفنانين أنفسهم، الذين هم جوهر العملية الإبداعية والفنية. «ما الذي يحملونه في ذواتهم من مخاوف اجتماعية، واستهلاكية، وسياسية، مع الدمار والاضطرابات العالمية، على المستويات الصحية، والنفسية، والاقتصادية»، يقول لنا راجح، مضيفاً: «يجب أن نتساءل عن الثقافة ودورها، وكيف يمكن لها أن تتداخل وتنخرط في المجال الاجتماعي والسياسي، من دون فقدان قيمتها الفنية؟ تتوسّع دائرة التساؤل لتطرح ماذا يعني أن تكون فناناً، أو عاملاً في الشأن الفني؟ ما هو دور الجمهور، وماذا يعني أن تكون جمهوراً نشطاً، ولماذا؟». إذاً، تُقام النسخة الثامنة عشرة من «بايبود»، كشكل من عصيان الإرادة الحرة، وكدعوة للتجديد والتغيير، لاستكشاف كيف يمكن للأفكار الملهمة، التي تجسدت في المسارح والمهرجانات، أن تستمر في تجديد شبابها وخدمة أغراض الفنانين المبتكرة.
يقدّم بسام أبو دياب Pina My Love اليوم على خشبة «بيريت»

يبدو لافتاً، هذا العام، أنّ «بايبود» يُقدّم في «مسرح بيريت»، الذي لا يتّسع لأكثر من 150 شخصاً، و«متحف سرسق» في بيروت. يقول راجح إن «هناك عدداً من القيّمين على المسارح يتعاطون بمنطق السلطة الحالية في لبنان». ويرى ضرورة بث روح الشباب والتغيير في عدد من المسارح، لتصل الممارسات الثقافية إلى مستوى آخر. «هناك ديناصورات في الثقافة، ونحن بحاجة إلى دم جديد» يقول راجح. رغم هذا السخط الفني على الواقع، إلّا أن العالم الافتراضي، بات بديلاً رحباً. يأخذ المهرجان مستوى جديداً من خلال البث الرقمي للعروض، والحوارات، والفعاليات الأخرى، عبر منصة Citerne.live، ويمكن للجمهور في مختلف المدن، متابعة المهرجان عبر الإنترنت، لتتشكل فرصة للإفادة من الثقافة والمعنى حول التضامن عبر الحدود.
من الأعمال المشاركة في «بايبود» عرض «حضرة» (30.د)، الذي عُرض في «سرسق» أمس، كما سيُقدَّم في بعقلين غداً (السادسة مساء). العرض هو من تصميم الفنان والراقص الفرنسي -المغربي ألكسندر روكولي، يستلهم من الرقص الدائري، جماليةً فنيةً. يمزج بين الكوريغرافيا، والفنون البصرية، والموسيقى، والمسرح. يسائل «حضرة» الذاكرة، من خلال التشكيك في سيرورات الخيال. يستخدم الراقص في هذا العرض، الجسم، كأداة للتنقيب في الماضي والمستقبل، ليتنقل بحرية بين التخيلات الزمنية.
يرفع المهرجان هذا العام شعار العصيان الثقافي


وضمن برمجة «بايبود» لهذا العام Nebula أو «سديم» (60 د) الذي تقدّمه الراقصة فانيا فانو اليوم في «متحف سرسق» (س:18:00). تقارب الراقصة والكوريغراف الفرنسية، العلاقة بين جسم الإنسان والطبيعة، باعتبارها اجتماعاً للقوة. تتساءل عن العلامات الحديثة حول نشوء الكون، ليكون العرض رحلة عبور إلى المجهول، يعكس «لحظة كسوف كونية، بهدف إلقاء نظرة خاطفة على عوالم أخرى وممكنة، يلتقي فيها المستقبل والماضي». إذاً، تقودنا فانو في خيال علمي، إلى ما قبل التاريخ. في اليوم نفسه، أي 27 أيار، يقدم الكوريغراف اللبناني، ومؤسس «بيروت فزكل لاب» بسام أبو دياب عرضه المرتقب Pina My Love (45.د)، على خشبة «بيريت»، عند الثامنة مساءً. يستوحي الراقص اللبناني، عنوان العرض من اسم الكوريغراف والراقصة الألمانية الراحلة بينا باوش. يسترجع أبو دياب، قصصاً عن السجن والألم، ويحاول التوسع في أوضاع السجون، والممارسات الوحشية اللاإنسانية التي يتعرّض لها السجناء. يقول بسام لنا إن «السجن يمثل عقوبة مباشرة وتقييداً قسرياً للحرية، وفضاء الإنسان». السجن الذي استخدمته الأنظمة الشمولية، كأداة لإخضاع حرية التعبير للأفراد، من خلال الترهيب والتعذيب، يبقى فيه الجسد أهم وسيلة للتعبير الإنساني. فكيف للراقص بسام أبو دياب أن ينظر إلى تجارب السجناء، التي وثّقها؟ يصوّر Pina My Love إذاً، الحركة وردود الأفعال في فضاء مقفل، ويتساءل ما إذا كان ممكناً للجسد أن يجد ما هو خارق للطبيعة، للنجاة من الألم، وتحويله إلى رقص من أجل النجاة.

«حضرة» للفنان والراقص ألكسندر روكولي

من المقرّر أن يُختتم «بايبود» مع الكوريغراف السويسري لوانس ماندافونيس وعرضه From Scratch (45.د) في «متحف سرسق» عند السابعة من مساء الأحد. العرض ارتجالي، يتم بناؤه استناداً إلى أفكار المتفرّجين، التي سيطرحونها عليه في وقت الأداء. يجمع كاندافونيس اقتراحات الحاضرين ويقدمها على شكل رقصة وأداء فوري، ويشركهم في العملية الإبداعية. يطرح العرض رؤية جديدة لفن الكوريغرافيا، بهدف المساعدة على فهم بعض القواعد والأدوات الخاصة بالراقصين، وكيفية بناء كوريغرافيا.
لا تقتصر فعاليات المهرجان على تقديم عروض الرقص المعاصر، بل تتعداها ليشكل «بايبود» ملتقى ثقافياً، يتشارك خلاله الفنانون، والناشطون، والجمهور، مساحات للنقاش، والحوار، والتفاعل. أبرز اللقاءات جلسة حوار تُقام اليوم في «متحف سرسق» (السادسة مساءً) بعنوان Caring, Daring, Sharing تجمع عدداً من الناشطين الثقافيين بين لبنان وفرنسا.
بايبود هذا العام، يأتي في ظروف غير مسبوقة تعيشها بيروت التي تُعاني من انتكاسات لم تشهدها من قبل. عروض رقص معاصرة، يهفو من خلالها الجمهور اللبناني، لمشاهدة لغة مسرحية جديدة، ترد الجسد إلى أصوله الإنسانية، وإلى واقع أكثر صفاءً، يلبي التطلعات الجديدة للمجتمع الإنساني.

«مهرجان بيروت للرقص المعاصر ــــ بايبود»: حتى 29 أيار (مايو) ــــ «مسرح بيريت»، و«متحف سرسق» في بيروت، وبلدة «بعقلين» في الشوف ــــ الحضور مجاني ــــ العروض متاحة على منصة Citerne.live