‏شاء جوزيف حرب أن يكون معرضه الذي اختُتم أخيراً في «غاليري جانين ربيز» معرضَين: واحد للوحاته التشكيلية، وآخر لمنحوتاته. كأنّه رغب في تقديم كلّ ما أنتجه فنيّاً وتعبيريّاً في الآونة الأخيرة. وإذ جمع وسيلتَين تعبيريّتَين، فقد انطوى المعرض على مناخات متنوّعة الرؤى والتقنيات والمواد، نحتاً لعشرات القطع، ورسماً لعدد موازٍ. هل ثمّة اختلاف جذري في هذا المعرض المزدوج؟ وفي أيّ من الفنّين تجلّت أكثر قدرات الفنان التعبيرية؟ نبدأ بمنحوتاته التي يعتبرها «اختراقاً» جديداً! فأين مكامن هذا «الاختراق»؟!

ينحت الأيادي والأرجل والرؤوس المبتورة داخل مكعّبات وأوعية زجاجية تحيلنا توّاً إلى ضحايا انفجار المرفأ وما أحدث من مآسٍ في البشر والحجر. علماً بأنّ الواقع يغلب التعبير الفنّي في حدث جَلَل مماثل، ويظلّ هذا الواقع الفجّ أقوى من نحته أو تصويره. بالتالي، يبدو حرب «مستقيلاً» من مخيّلته الإبداعية، نائياً عن التعبير الفنّي الذي يدلّ على خاصّية تُحسب له في التعبير عن العنف والمأساة. المعرض يتراءى لنا بلا توقيع! نحتاً بلا نحت! عنفاً لا يلامس الفن!
أعمال تقع في السهولة، أو تتبع المنحى الاستهلاكي. لا يفقه من «جماليات العنف» (رغم تناقض التعبير في المنطق العاديّ) أو «جماليات القبح» والموت وخراب المدن، حيث ينبغي لأيّ فنّان أن يُعْمِل مخيّلته ويروّض أدواته وتقنياته لتحويل الواقع إلى عمل محض فنّي. هنا تحضرنا تحفة بيكاسو «غيرينيكا» عن الحرب الأهلية الإسبانيّة وفظائعها، مسخراً لها عبقريته الفريدة بالأسلوب التكعيبي، فإذا بهذا العمل المرجعيّ المكرّس العظمة والقيمة يتجاوز الواقع ويتفوّق عليه في الرؤية الإنسانية، قبل الفنية، مخلّفاً أثراً نفسياً وبصرياً وإنسانيّاً قوياً لا يمحى من نفس الناظر إلى هذه الجدارية الخارقة. ولو مِلنا صوب الفن الروائيّ، فلدينا المثل الفذّ في رواية تولستوي «الحرب والسلم» التي يُجاوز فيها الكاتب الروسي العبقريّ الواقع نحو آفاق أبعد إنسانية وفلسفيّة وأدبيّة روائيّة.
أياد وأرجل ورؤوس مبتورة تحيلنا إلى ضحايا انفجار المرفأ


في أوعية جوزيف حرب، تتناثر الأجساد رؤوساً وأطرافاً، فهل رمى إلى أسلوب صادم وفجّ ماحياً المسافة بين الفكرة والمنحوتة المنجزة وما تجسّده وترمز إليه؟ فإذا كان الجزء المنحوت من المعرض «ضحيّة» سوء التعبير والاختيار، تعوّض لوحات الفنان ذاك السقوط من خلال تركيزها على حالات الجسد بلغة حيّة، مفعمة بالألوان والخطوط والتكوين. تستوقفنا كلّ لوحة للتأمّل واكتناه المعاني الظاهرة والخفيّة. لوحاته تُحاكي فكرة الوحش الذي يفترس حياتنا ويومياتنا في الوطن المنكوب بمآسٍ شتّى، ليس آخرها انفجار المرفأ (التيمة الطاغية على بعض المعارض في الفترة الأخيرة!). يرسم حرب قوّة متمثّلة في ثيران هائجة. تتداخل أجساد أفراد ومجموعات معرّاة كأنّها ترمز إلى تلاصق حميميّ، صافٍ، حالم. وفي لوحات أخرى، تتشلّع الأجساد وسط غرائز القتل والعنف، في ظل الحرب والدمار. هنا تحديداً، تُفلح ريشة جوزيف حرب وفرشاته خطوطاً وألواناً ورؤى، ضمن كيمياء لافتة شكلاً ومضموناً. ينجح في إبلاغ رسالته الإنسانيّة والفنيّة المتماسكة تقنياً وجمالياً. وهنا يظهر إلى حدّ بعيد المعنى المقصود بـ «جماليات العنف».