سيظل أبشع ما يتعرض له الإنسان عبر العصور، الاضطهاد والتمييز العنصري، الذي يمارسه بنو البشر ضد بعض، خاصة عندما يرافقه استغلال مدروس جسدته الكولونيالية، أو الاستعمار. يبدو أن إنسان الآن لم يستوعب الدرس جيداً، بل ما زال يتوق للحروب وللقتل بدون رحمة أو خوف من المساءلة التاريخية. لعلّ الأدب وجد كي يرمم الفجوات التي لم يأت التاريخ على ذكرها، أو يواجهها عند كتابة ماضي بلاد بعينها. يقول فالتر بنيامين: «لكي تكتب التاريخ، يجب أن تستشهد به، لكي تكتب الماضي عليك مواجهة التاريخ». انطلاقا من مقولة بنيامين هذه، يمكن أن نصوغ السؤال التالي: ما الفرق بين الاستشهاد بالتاريخ ومواجهته؟ وكيف يمكن أن نكتب الماضي والتاريخ معاً أم أن أحدهما سيتعارض والآخر روائياً، أي أنهما لا يجوز أن يلتقيا؟ كتب الروائي الجزائري مصطفى بوغازي روايته «تيانو» أو «عزلة الأرض البعيدة» (دار غراب/ مصر ودار خيال/ الجزائر) كي يواجه التاريخ، كما أنه كتب التاريخ مستشهداً به، مانحاً للخيال فرصة خلق موازنة بين الماضي، التاريخ والرواية كعمل فني له قوالبه. إذ تسرد الرواية قصص وحكايات المنفيين الجزائريين بسبب ثورة المقراني عام 1871 والمبعدين من كومونة باريس وتحديداً الفترة التي التقى فيها الجميع في رحلة بحرية إلى كاليدونيا الجديدة دامت لأكثر من ثلاثة أشهر من الإبحار...
يطالع القارئ من خلال الرواية ظروف الحياة هناك، وكيف ساهم المبعدون والمنفيون في قمع انتفاضة الكاناك وقتل الزعيم أتاي في العام 1878، ونهاية بومرزاق المقراني وعزيز ومحمد الحداد، وإبادة شعب تسمانيا في أستراليا، إذ تناول ذلك على لسان شاهد كان متواجداً كبحار على ظهر سفينة «نفارين». نلاحظ أيضاً أن بوغازي تتبع طريقة الحياة الاجتماعية من طقوس دينية وأفراح، وأنواع الألبسة والغذاء. وطبعاً كان للحياة البرية حضورها في عمله، إذ أنه اقتفى آثارها ومظاهر الجغرافيا، كما لو أنها مشاهد من الواقع، بحيث قرّب الصورة في ذهن المتلقي، كما أنه رصد معالم تلك الفترة من بيئة وعمران من خلال بحث ارتكز إلى الأماكن التي كانت مسرحاً لوقائع الرواية.
يبدو أن الكاتب لجأ إلى أرشيف البحرية الفرنسية والإنكليزية ليتحدث عن الملاحة البحرية، إذ وظف أيضاً شخصيات تاريخية كقبطان السفينة، وحاكم كاليدونيا الجديدة وزعيم الكاناك وأيضاً أسماء بعض المبعدين إثر أحداث كومونة باريس، كالكاتبة والمناضلة والمربية لويز ميشال. إذ تقول الرواية: «فقد كانوا كذلك من صفوة المجتمع من مفكرين وإعلاميين وكتاب وفنانين، وكان أولئك الحالمون بأن تنتصر ثورة العمال والكادحين، منضوين تحت راية حمراء، منتصرين لأفكار كارل ماركس. كانت لويز ميشيل كاتبة وفنانة ووجها من الوجوه النسائية البارزة، تبنت أفكار الكومونة واقتربت من قياداتها فتعاطفت مع هؤلاء العرب الذين ثاروا في وجه فرنسا، وكتبت عنهم، وهي تلاقي نفس مصيرهم بجزيرة الصنوبر».
وككل الأعمال الأدبية، اختلق المؤلف شخوصاً من وحي الخيال ليكتمل العمل الأدبي ويكون ضمن إطاره الحقيقي، وهو الرواية التي لا صوت يعلو فوق صوتها مهما أتت بحكايات تاريخية واجتماعية من صلب الواقع ورحم معاناة الشعوب. فقوة هذا العمل دمج الخيال بالواقع، إذ لا يمكن أن تنتصر للحقيقة ولا للخيال بقدر ما تنتصر للحقيقة الأدبية التي تعيد صياغة معلوماتنا التاريخية وتدعونا للبحث والتقصي من أجل قراءة جديدة للتاريخ.
برغم من صغر حجم رواية «تيانو»، إلاّ أنها تحتوي على معلومات أعاد الكاتب صياغتها روائياً، بما يتماشى وطبيعة النص الأدبية. فهي تنتمي برأيي إلى ما يسمى برواية التخييل التاريخي.
جاءت هذه الرواية بنبرة مساءلة للتاريخ من وجهة نظر الأدب، من خلال استحضار الماضي، أو إعادة إحيائه روائياً، كي يتذكره الجيل الحالي، وكما يقول ماركيز: «الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره، ليرويه».