ترجمة: عماد الدين رائف
متى بدأ كل ذاك؟
يبدو أنه حدث في الوقت نفسه لدى الآخرين، لدى الجميع.
كان ذلك في 17 آذار (مارس) 2020. اقتحم الفلسطينيون المعهد، موقرين متراصّين. وكان على رأسهم نايف حواتمه. كنت أظن أنه تقاعد منذ فترة طويلة، لكنه ظهر.

على قيد الحياة.
أسطوري.
متطرف. مناضل في سبيل السلام. مثل قطعة أثرية في متحف.
زعيم الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين التي لا يُذكر وجودها إلا في معهدنا.
في الواقع، كنا قد التقينا من قبل. كان ذلك في الشتاء، وكان نزل في فندق متواضع بعيداً عن مركز المدينة، وأنا اصطحبت معي إليه صحافياً فرنسياً.
أسطوري أيضاً.
كان جناحه المكوّن من غرفتين مكتظاً بشبان صموتين قويّي البنية، ذوي مظهر حذر.
كنا ننتظر في غرفة الاستقبال.
خرج إلينا حواتمه من غرفته كنصب تذكاري. كان يرتدي بزّة رمادية فاتحة من ثلاث قطع، في قميص أبيض. وجهه متجمّد، كان يتحرك بسلاسة وبشكل ميكانيكي تقريباً.
عام 2020 كان هو نفسه. بدا أنه في البزّة عينها، والشبان حوله لم يتغيروا.
تكرر كل شيء كما لو أنه مستنسخ: ظهر في الغرفة وعلى وجهه ابتسامة مواربة، وجلس إلى الطاولة، مستقيماً كعصا، وجهه الشاحب شبه الشمعي لم يعبر عن أي شيء. سألوه عن شيء ما. في الواقع، لا يهم عمّا.
كانت عيناه تنظران إلى البعيد، ويداه ملقاتان بلا حراك على الطاولة. بدأ الكلام. تحدث لمدة خمس دقائق، عشر، نصف ساعة، وبدا أنه يستطيع التحدث من دون توقف لمدة ساعة أخرى. حتى ينتهي العالم. لا يهم ما قاله. لا يهم لمن. لا يهم حتى متى. قال الشيء نفسه قبل عشر سنوات، قبل ثلاثين سنة، على نوتة واحدة تقريباً، تماماً كما لو أنه يقرأ بيانات حزبية.
كان اليوم الأخير من عملنا في روجديستفينكا 12 (1)، ذاك الربيع.
في اليوم التالي بدأ الحجر الصحي وتغيرت حياتنا.
وكما اتضح لاحقاً، إلى الأبد.
■ ■ ■

أو ربما لم تبدأ هذه القصة آنذاك على الإطلاق، ولكن قبل عدة سنوات.
لدى أمي في غرفتها صورة صغيرة.
عام 2013. في الربيع، على الأرجح، كنت مع ابن أختي بوركا. كنت لا أزال نحيلاً، في معطف أسود فوق الركبة مباشرة (أين هو الآن؟). كان بوركا في سترة وقبعة مضحكة. وقفنا فوق أساسات ما سيغدو في ما بعد منزلنا. لم يكن منزلاً بعد، لكنه لم يعد مجرد حلم بمنزل. كان يبدو مثل هيكل خشبي لسفينة، أو كالهيكل العظمي للحوت الذي ابتلع يونان النبي (يونس). أطلّت السماء الزرقاء الباهتة علينا من الفتحات بين الألواح والعوارض الخشبية. بدا الهواء شفافاً كما هي الحال فقط في الربيع ومطلع الخريف. رفعت يدَيَّ كأني أقول: انظر ماذا سيُبنى هنا. نظر بوركا وكأنه يتساءل إن كان الأمر سيتمّ.
كنا سعيدين.
قبل تلك الصورة، وعلى مدى سنوات تحدث الجميع إلى ما لا نهاية عن ذاك المنزل، تجادلوا حول المنزل، تشاحنوا بشأن المنزل، وحلموا به.
كان لدينا منزلنا القديم. بدت ألوان جدرانه التي تحاكي سماء الخريف المزرقّة كأنها تلمّح إلى أن تلك الصورة ستظهر يوماً ما.
كثيرة كانت الأشياء فيه.
بدت لي حديقته ضخمة، على الرغم من أنها نصف مساحة الحديقة الحالية. إلى جانب أشجار التفاح، نمت فيها شجيرات توت العليق وعنب الثعلب. وفي الصيف، كان من الضروري العمل المستمر على قطع أغصان التوت أو ربطها. وإلى جانب توت العليق وعنب الثعلب وأشجار التفاح، نما العشب طبعاً، ونباتات أخرى. نباتات البلسم المزهرة المنتشرة في كل مكان، والتي خاضت جدتي معها حرباً بلا هوادة. كان من المستحيل أن تكسب تلك الحرب، أما أنا فأحببت كسر أغشية بذورها الشفافة، ومشاهدة عصائرها تتدفق على يدي، أو تفرقع حبات بذورها فتنتشر في جميع الاتجاهات مبشرةً بهجوم جديد من نباتات البلسم.
ذاك المنزل كان ينهار ببطء.
كانت مساحته صغيرة، فإذا ما أويت إلى الفراش، لن تتمكن مسبقاً من معرفة مع من ستستيقظ.
أعرف كل ما كان هناك. لم يقتصر الأمر على السعادة فقط. أحياناً، عندما آوي إلى الفراش، أغمض عيني وأراه. لا أرى المنزل كله، ولكن أرى قسماً من الشرفة وركناً صغيراً خلفه، خلف جذوع أشجار الكرز والكستناء الضخمة، بالقرب من الموقد الخارجي. يحيط بها العنب البري المتضخم. تنتصب شبكة معدنية عازلة فوضى جزء آخر من الحديقة، كحاجز أخير أمام زحف الأعشاب الضارة. وهناك طاولة قديمة مغطاة بقطعة قماش بيضاء.
كلهم كانوا هنا.
الباقون على قيد الحياة اليوم، وأولئك الذين رحلوا منذ زمن بعيد. أبي المبتهج، وجدتي الجالسة على كرسي ذي ذراعين، وصحف الكلمات المتقاطعة ملقاة بجوارها، وجدتي الكبرى أكلياكليا هنا أيضاً... كلهم، كلهم... حتى الجد مارتيانوف غير مخمور، يصلح شيئاً ما جانباً. الوقت نهاية الصيف. تنبعث منه رائحة الفلفل المهروس. ولسبب ما، الجميع يشعرون أن الحال جيدة. تقف آلة غيتار قربنا، ربما عزف عليها شخص ما هنا ونسيها.
رحل مارتيانوف.
في السنوات الأخيرة، حين كان على قيد الحياة، نادراً ما قصد آخرون المكان. وحدها جدتي كانت تأتيه نهاية كل أسبوع. أعتقد الآن أنها لم تصطحبني كثيراً. لكن رسخ في ذاكرتي كما لو كانت تفعل ذلك طوال الوقت. ركبنا قطاراً كهربائياً في محطة ياروسلافسكي للسكك الحديدية، كنا نجلس عادةً في العربة الرابعة. كانت تحتوي على محرك، ما يجعل العربة تهتز قليلاً أثناء الحركة، لذلك كان فيها عدد أقل من الركاب مقارنة بالأخريات. نوافذها السميكة المتّسخة مبلّلة بالضباب من الداخل ومجمّدة من الخارج. وخلفها أسوار عليها غرافيتي «ف. ك. 1». كما أتذكر الآن، تصطف رسوم الغرافيتي هذه على الجدران في قصة حقيقية. بدأت قصتها من أن لينين حيّ، وأن تسوي (2) لم يرحل بل خرج ليدخن، ويستمر في التفكير بروسيا والروس، وانتهت بالدعوة إلى «حطّم النظام!».
تستغرق الرحلة بين نصف ساعة وأربعين دقيقة. وخلال هذا الوقت، يمكنني فعل الكثير إن لم أنمْ ... أقرأ عن نارنيا (3) أو التنانين، وأستمع إلى قصص جدتي، وأنظر من النافذة، وأبتكر القصص...
حافلة «باز» القديمة. نقانق مسلوقة أو أفخاذ دجاج مقلية للعشاء. بوظة.
عندما لم تكن الأمور سيئة للغاية، كنت أذهب مع جدي إلى غرفته. على الرغم من أنها تفوح دائماً برائحة النبيذ الحامض، إلا أنني أحببتها. فوق السرير، علّق جدي خريطة كبيرة للاتحاد السوفياتي، وأخبرني عن مصر.
في بعض الأحيان، لم يجر الأمر على هذا النحو. بمرور الوقت بات ذلك نادراً أكثر فأكثر.
وعندما مات ذلك الصيف، بدأ الجميع يقصدون العزبة من جديد.
كان ذلك في 17 آذار 2020. اقتحم الفلسطينيون المعهد، موقرين متراصّين، على رأسهم نايف حواتمه


تمرّ أشهر الصيف الطويلة. نزهات مع العرابة آلكا، وسهرات لا تنتهي.
11 آب (أغسطس)، عيد ميلاد جدتي، عندما يجتمعون كلهم، كلهم، عدد كبير من تلاميذها...
ثم رحلت جدتي.
أتذكر كيف كان موكب دفنها، أمامنا سيارة ذات ضوء وامض، أنظر من النافذة الخلفية وأرى طابوراً لا نهاية له من السيارات. في المقبرة، سأل الجميع: دفنُ من هذا؟ المعلمة.
بعد عشر سنوات رحلت آلكا.
كان الشتاء والوحل، وكانت هناك مسيرات احتجاجية في موسكو، وماتت عرابتي الصغيرة في بتروفسكو رازوموفسكايا.
انهار كل شيء.
كان المنزل ينهار.
وكان من الواضح أن هناك حاجة إلى آخر جديد، ولم يعد من الممكن الاستمرار على هذا النحو. لكن لم يكن هناك مال ولا رغبة، كان الأمر مخيفاً. ثم قامت والدتي بطريقة ما بقلب كل شيء، وها نحن نقف مع بوركا وسط العوارض والسقالات. سيكون كل شيء جديداً، لكن لن نتمكن من الحفاظ على كل ما كان.
لو لم يكن هذا المنزل الجديد، كما اتضح في ما بعد، لما كان بالإمكان الحفاظ على أي شيء آخر.

■ ■ ■

لذا، ربما بدأت هذه القصة قبل ذلك أيضاً.
ربما بدأت أواخر الثلاثينيات، عندما لم تكن هناك قرية، ولا مرائب حول القرية، عندما كانت هناك ثلاث عائلات فقط في الشارع كله. لم يُسمَّ النهر الموجود أسفله بـ«النتن»، وسار الناس مسافة أربعة كيلومترات للوصول إلى القطار. عندما حصل جدي الأكبر، أستاذ الكيمياء، على قطعة أرض هنا، وأعطت أكلياكليا نصفها لصديقتها، العمة تانيا، التي لم أرها لكني كنت أعرف عنها منذ الطفولة. عندما لم يكن لديه الوقت لإكمال بناء العزبة، مات في الحرب حين قصف منزله في أربات، وتركت أكلياكليا المدرسة واستقرّت هنا مع والدتها التي كانت ترتدي الأسود دائماً. إيرينا فاسيليفنا وابنتها المراهقة، كانتا تعيشان على ما تنبت الحديقة وتشعلان المكتبة ببطء للبقاء على قيد الحياة في فصل الشتاء. وفي الصيف، كانت أكلياكليا تربي الأزهار وتبيعها لتعيش.
ثم أتى ماغدان. لماذا، وكيف انتهى به الأمر مع جدتي هناك؟ يلفّ ذلك الكثير من الغموض. كما هي الحال، مع كل ما في تاريخنا الرهيب في تلك الأوقات.
وُلدت أمي.
ها هي جالسة، لا تزال صغيرة جداً، على درجات منزل تم الانتهاء من بنائه للتوّ. تنظر وتنظر وتنظر إلى الطريق. إنها تنتظر عودة والدتها الحبيبة آتيكا من العمل...
ربما بدأ كل شيء بالفعل حينذاك.
لا أعلم.
■ ■ ■

يوم الخميس، 18 آذار (مارس) 2020، كنا جميعاً في العزبة.