مازن نعّوس، حفيد أنطون سعادة، ابن صفيّة سعادة، الذي عرفته صبيّاً أسعد بالحديث إليه في حرم الجامعة الأميركية بداية الثمانينيات، الأستاذ المحاضر اليوم في الأدبين، المقارن والإنكليزي في «جامعة ماسشوسيتس آمهرست» في بوسطن، صاحب الاختصاص في الأدب الأميركي العربي ونظرية الترجمة وصلة الموسيقى بالأدب، ينهض اليوم بترجمة مذكّرات الأمينة الأولى جولييت المير سعادة، جدّته، قرينة رائد النهضة القومية في بلاد الشام. ولعلّه الأنسب والأمهر في نقل عبارة جولييت المير إلى الإنكليزية (Memoirs of Juliette Elmir Sa’adeh: Syrian Social Nationalist, Reformer, Political Prisoner. Translated by Mazen Naous, London, Folois, 2022). وهي عبارة مُثقلة بتاريخ نضالها ومعاناتها في رحلتها الوضّاءة إلى جانب الزعيم منذ اقترانها به في بونس آيرس حتى إعدامه بيد البطش والجهالة. فوفتْ قسطها للعلى بعد غيابه في رعاية الحزب السوري القومي الاجتماعي وتنشئة بناتها صفيّة وأليسار وراغدة وانخراطها في النضال القومي وسجنها قسراً في دمشق لعشرة أعوام، ثم خروجها إلى المعترك السياسي لعشرة أخرى. فرغم حياتها القصيرة (1909 – 1976)، خلّدت مفاهيم أنطون سعادة (1904 – 1949) رفيق دربها لعقد، وكانت مثالاً يُحتذى لمشاركة المرأة في بلاد الشام في السياسة والاجتماع.

كانت جولييت المير دوّنت مذكّراتها هذه بالعربية عام 1966 حين كانت في زيارة لمدينة أكرا في غانا إثر خروجها من السجن يوم 26/12/1963 وتوجّهها إلى باريس بعد يومين واستقبالها على أرض المطار هناك من قبل ابنتها أليسار وفؤاد ونجاة الشمالي. سجّلت الأمينة على مدى ثلاث سنوات تفاصيل حياتها وهي في أكرا، حيث استراحت لبضعة أشهر، فدوّنت الجزء الأهم في نظرها من مذكّراتها والمُمدّة أحداثه المصيرية من عام 1947 إلى عام 1963، فأماطتْ عن الكثير من الأسرار والغموض الذي اكتنف تلك المرحلة الخطيرة من تاريخ سوريا. وفي وقت لاحق على رحلة أكرا، دوّنت الأمينة الأولى سجلّ حياتها من الطفولة في طرابلس إلى توكومان ثم إلى بونس آيرس في الأرجنتين حتى وصولها إلى بيروت لملاقاة الزعيم.
تروي أليسار سعادة في الطبعة العربية من مذكّرات والدتها (دار سعادة للنشر، بيروت، 2013) تفاصيل حياة جولييت المير في باريس وجنيف ومرافقتها لها في رحلة إلى أميركا اللاتينية وأميركا الشمالية بدعوة من القوميين. وفي المذكّرات العربية، تضيء خالدة سعيد في مقدّمتها على معرفتها الحميمة بالأمينة الأولى في السجن وخارج السجن وهي مقدمة تؤرخ مرحلة نضال مشترك.
أفلحَ مازن نعّوس في إعطاء ترجمة دقيقة وأمينة لمذكّرات جولييت المير سعادة في قماشة لغة تنصفُ النصّ الأصلي وتُجاريه في تطوّره التاريخي الحافل بالمعاناة فالانتصار والخلود، ما انتصر سعادة وخلد في موقف العزّ الذي تبنّاه وأسّس عليه مبادئ حزبه.
في مقدمتها لمذكّراتها، تلحّ جولييت المير على أنها كانت تتمنّى أن تقصّ على أولادها تاريخ حياتها ومعالم الأيام السعيدة مع سعادة فيما لو كان جالساً معهم جميعاً يتابع حديثها، فتستعيد معه الأيام التي مرّت ويحياها معها مجدّداً. تلك الحياة التي نشأتْ على مدماك حبّ متين ومثاليّ، وها هو حفيدها يكلّل أمنيتَها بالنجاح ويكملُ مسيرة الزعيم والأمينة الأولى بترجمة معافاة تخلّد ذكراهما. هاجرتْ جولييت المير في حداثة سنّها بحراً مع أهلها إلى الأرجنتين عام 1920 وتبلورت شخصيتها في بونس آيرس واختارت مهنة التمريض. التقت سعادة بالصدفة، وهو يزور أهلها إثر رحلة لها إلى نيويورك، وما هي إلا فترة قصيرة حتى رأت فيه أنه باعث نهضة بلادها، فانتمتْ إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي.
ثم كان الترافق والتفاهم بين نفسها ونفس الزعيم، وطلب منها أن تكون رفيقة حياته وشاركته في قراره إنشاء صحيفة «الزوبعة» ناطقةً بلسان حزبه وأعلنا خطوبتهما على الملأ، فيما تابعت ممارسة مهنة التمريض وانصرف الزعيم إلى رصّ صفوف حزبه، وكان اقترانهما ثم أنشآ مكتبة في توكومان وسكنا في بيت متواضع ورُزقا صفية وأليسار.
تروي الأمينة الأولى تفاصيل عزم سعادة في العودة على بيروت وبدأ التخطيط لها بدءاً من عام 1946، فوصل القاهرة أولاً ومنها إلى بيروت يوم 2 آذار (مارس) 1947 ورأساً ألقى خطابه الشهير من شرفة نعمة تابت في الغبيري وفيه أعلن ضمّ العراق إلى بلاد الشام وأن فلسطين قضية سورية في الصميم.
في بيروت، أعاد سعادة ترتيب وضع الحزب الداخلي وأحيا الندوة الثقافية فألقى فيها المحاضرات العشر خلاصة الفكر السعادي بعد «نشوء الأمم» و«الإسلام في رسالتيه» و«الصراع الفكري في الأدب السوري». وصدرت مذكّرة باعتقال سعادة يوم وصوله وإثر خطابه الصريح في هجومه على السلطة، فاحتجبَ لفترة والتجأ إلى الجبل متابعاً شؤون حزبه، والتفتَ إلى عائلته وكانت الأمينة الأولى انضمّت إليه مع صفية وأليسار فيما ولدت لهما راغدة في بيروت صيف 1948.
تلاحظ جولييت المير في مذكّراتها تأهّب سعادة إثر سقوط فلسطين، ثم قراره بالانقلاب على الطبقة الحاكمة، إلى أن كان الاحتفال بمولد الزعيم في الأول من آذار 1949 لكنّ السلطة منعته فأُقيم في منزل الأخوين شاوي. وتعيد صاحبة المذكّرات إلى الأذهان أن سعادة كان دائم العمل ولم يكن يعرف معنى الراحة، فأسّس صحيفة «الجيل الجديد» ومطبعتها، وأشرف عليهما إلى أن كانت حادثة الجميزة وخروج سعادة من بيروت في حزيران (يونيو) إلى دمشق وإعلانه منها الثورة الاجتماعية الأولى في 4 تمّوز (يوليو) ثم فشلها جزئياً وإنْ دخلت تاريخ بلاد الشام كلّياً ثم قيام حكومة حسني الزعيم بتسليم سعادة إلى السلطات اللبنانية ومحاكمته على عجل فإعدامه فجر 4 تموز 1949. إثر إعدام الزعيم، انتقلت جولييت مع بناتها الثلاث درءاً للخطر إلى دير صيدنايا. وهناك فقط عرفت بغياب سعادة وإلى الأبد؛ لكن عملت على إعادة تنظيم الحزب برفقة الأمناء، فرحلاتها في مدن الشام وريفه واحتفاء القوميين بها، إلى سكنها في دمشق واستئناف نضالها. ثم ضُربَ الحزبُ شرّ ضربة إثر اغتيال العقيد عدنان المالكي في نيسان (أبريل) 1955 فزُجّ بالأمينة الأولى في السجن فلاقت العذاب والأهوال، ووصفتْ ذلك بدقّة في مذكّراتها بما لا يصدّقه العقل، سيّما ما اتصل بمحاكمتها الظالمة. أُفرج عنها بإذن خاص فخرجت إلى الحرية وبناتها في عام 1963.
مذكّرات جولييت المير سعادة قطع نادر في فن السيرة الأدبية، وها هي اليوم بالإنكليزية تضيء على نضال سعادة وقرينته وصفية وأليسار وراغدة بجهد مشكور لحفيد الزعيم مازن نعّوس.
في توطئتها لهذه الترجمة لمذكّرات والدتها، تعرض صفية سعادة تاريخ الأمينة الأولى في إطار اجتماعي سياسي، فتضيء على حياة هذه المرأة الطليعية بامتياز منذ نشأتها الأولى في طرابلس، مروراً بهجرتها إلى الأرجنتين ونضالها المشترك مع سعادة ورحلة الحزب في بلاد الشام حتى وفاتها في بيروت. وتفسح لأهمية خليل سعادة والد الزعيم، فكراً وأدباً وطبّاً، مترجماً وروائياً وصحافياً وقاموسياً، وتشيد بإنجازات والدها، علمنة ومبادئ ودستوراً ومشرّعاً للنهضة الاجتماعية وداعية للديمقراطية في بلاد الشام.
يهدي مازن نعّوس ترجمته الرصينة إلى جدّته وفي مقدّمته المرجعية يشير إلى منهجيته الدقيقة في نقله العبارة العربية إلى نسيجها الأنيق بالإنكليزية.
ترجمة مذكّرات الأمينة الأولى في الحزب السوري القومي الاجتماعي تفيها حقّ مكانتها في بلاد الشام ودلالة على أن الأصل مَحْتِد والعِرق دسّاس.

* كاتب فلسطيني