«هذا هو العراق» طبع في بيروت في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1953. هذا هو عنوانه الرئيسي. عنوانه الفرعي: «آراء في السياسة والمعارضة والأحزاب وحقائق عن المجتمع العراقي والشبان مع الفتيان». النسخة بين أيدينا، من محتويات مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت. على غلافها الأول، رسوم لوجوه بشرية من مختلف الأعمار والأجناس، وقافلة وجامع. اسم المؤلف عبد الكريم أبو التمن. وهذا يعني أنّ الكتاب صدر قبل ما يقرب من سبعة عقود، لكنه ما زال راهناً بمضامينه.قسّم الكتاب إلى عناوين بخط بارز، تضمّن كل عنوان عدداً من الآراء واللقطات والشذرات التي تدور في فلك العنوان، مع تطعيمها بمختارات معبرّة مختصرة ومستلّة من نصوص كتاب ومؤلّفين مشهورين، ورسوم مستمدة من مضامينها.
هكذا، كان العنوان الأول «نحن العرب»، والثاني «السياسة في العراق»، والثالث «المعارضة والأحزاب في العراق» والرابع «الصحافة في العراق»، والخامس «الشباب في العراق»، والسادس «آراء في الحياة»، والسابع «شخصيات من العراق»، والثامن «قضايا عربية». تحت كل عنوان عدد من الآراء والخواطر التي تصب في إطاره وتعبّر بلغة السهل الممتنع عن موقف أو وجهة نظر نقدية أو فكرة جديدة في مسار الموضوعات المختارة. ورغم قدمها زمنياً ونشرها في حينها، إلا أنّها تلامس ما هو معاصر ومعاش في أزمان تالية حتى أيامنا هذه، وتكتنف دلالات ترقّب واستشراف ورؤى قريبة لما يحدث الآن.
بدأ المؤلف كتابه عن حقوق العرب وأهمية الرأي العام في رقابة السلطات ووعي الشعب لدوره في الحياة العامة، والردّ على تساؤل الغرب عن أنّ العرب عالة عليه، وضرورة إدراك واقع القدرات والطاقات العربية في بناء الوطن وسعادة الشعب. وقارن بين حياة المواطن العربي وما يحصل عليه المواطن في الغرب. «والمواطن العربي لا زال يرنو إلى وطنه فلا يرى فيه مجالاً للعمل يعتاش منه بكرامة واطمئنان. والمواطن العربي لا زال ينظر إلى وطنه، فلا يأنس منه ملاذاً يلجأ إليه إذا حلّت به محنة أو أصابته ملمّة في هذه الحياة» (ص16).
صنّف المؤلف «الساسة في العراق» إلى أربعة أصناف، كما كرّر ذلك مع المعارضة. كتب بأنّ هناك أربع فئات من الساسة في العراق: رجال حافظوا على مبادئهم، سواء كانوا في الحكم أو خارجه وترسموا في طريق حياتهم السياسية مبادئ ثابتة مستمدة من المصالح الوطنية «إنما المؤسف أنّ تاريخ العراق لم يسجّل من أفذاذ هؤلاء الرجال إلّا أقلّ القليل» (ص 22). وهناك «رجال انفردوا بامتياز خاص وأصبحوا لا يعترفون إلا بسياستهم وسلطتهم... ورجال يعيشون على هامش الحياة السياسية وينتقلون من جانب إلى آخر كلّما لاح لهم منصب مغر! والصنف الرابع هم الساسة الفاشلون وهم يملؤون البلد في كلّ مكان! (هكذا ص22).
وعن الأزمة الاقتصادية الخانقة، رأى أنّها تكمن في سببين رئيسين: «أولاً لأنّ البلاد لا زالت غير متملّكة بعد لمنابع ثرواتها باعتبارها - أو هكذا يشاء الاستعمار أن يقول- إنها لم تتملك القدرة بعد على استثمار هذه الموارد بنفسها. وثانياً لأن الحكومات المتعاقبة قد ارتكبت وما تزال ترتكب معصيتها الكبرى، ذلك أنّها لم تعترف بعد أو لم تأبه بعد بهذا الفراغ الهائل من البطالة وكساد وقت الفرد العراقي الذي يمضي عليه هباء ويفنى على غير طائل» (ص24).
تحت عنوان «الطائفية»، وصفها كظاهرة اجتماعية خطيرة لم ينجُ منها مجتمع. تنمو وتصبح خطيرة إذا اصطبغت بصبغة سياسية وراحت كلّ طائفة تنافس نظيراتها في القوة وأسباب الحياة، وخلُص إلى أنّ الطائفية «سلاح من خيرة أسلحة العدو التي يتوسّل بها التحطيم والانتقام من الخصوم» (ص29). واستمر في عرض آرائه عن الأوضاع العامة في العراق، عن الزعامة المفقودة، والروح الإقطاعية، والبطالة بين الشباب، والتطبيل والتزمير، والوعود والمزايدة في الوطنية... وتطرّق إلى غاية الإصلاح ورجاله، فأكّد أنّ «بعض رجال الإصلاح بحاجة إلى أن يُصلحوا ما بأنفسهم قبل أن يخوضوا غمار معركة الإصلاح. لقد كشفت معاملاتهم مع ذوي العلاقة وأهل القربى معهم أنّهم يحملون عقليّة لا تختلف بجوهرها عن عقلية الاستعمار الذي يقولون إنهم كرّسوا حياتهم لكفاحه». ( ص39).
«مأساة فلسطين» هو عنوان مقال للكاتب (ص117)، سجل فيه رأيه. يقول إنّ «أكبر كارثة حلّت بتاريخ العرب الحديث هي مأساة فلسطين. لقد ضلّل زعماء العرب شعبهم بما أدلوه من تصريحات واستعدادات وظلّوا يموّهون عليه الحقائق حتى اختفت فلسطين من خارطة العرب أو كادت. وراح أهل الغرب يتناقلون حقائق أوضاع العرب ويتندّرون على تردّي أحوالهم في ديارهم ويعيبون عليهم انصرافهم عن التعاون والتآزر وتبادل الإخلاص» (ص118). وأعاد الكتابة عن قضية فلسطين في مقالات أخرى، تحت عنوان «قضايا عربية»، حيث تناول حال العرب وأساليب الهيمنة الاستعمارية المعيقة لنهضتهم وتطورهم، ودعوة الحكام العرب إلى تغليب العقل على العاطفة في إعمار الوطن واستثمار خيراته. وأضاف عنواناً بارزاً وضعه حلاً لمّا تمر به الأمة العربية من أزمات، هو: الاتحاد طريق العرب الوحيد للحياة. فـ «باجتماع كلمة العرب وتكتّلهم على صعيد واحد، وبتعزيز قواه واتحادها على نسق واحد، وبالابتعاد عن التنابذ، وجمع القلوب لتحقيق هدف واحد سوف يرغمون العالم إرغاماً على الانتباه إليهم ويدفعونه دفعاً إلى تقدير قيمتهم وخطورة أهميتهم في هذه الحياة» (ص146-147). وشخّص في مقالاته الأخرى العدو المباشر للأمة، وهو الاستعمار البريطاني وسياساته في المنطقة العربية، وزرعه للكيان الإسرائيلي فيها لاستمرار الهيمنة عليها وتفريق شعبها وبلدانها. ولخّص رأيه هذا واستشرافاته في مقاله الأخير في الكتاب، الذي حمل عنوان «العرب وبريطانيا وإسرائيل»، داعياً إلى الانتباه من مكر وغدر والتواء السياسة البريطانية، وتحريك الكيان، أداتها في تهديد الدول العربية من وقت لآخر كل دولة على حدة وانفراد. «وهل تهديد إسرائيل لسوريا يوماً وللأردن ولبنان آخر إلّا نموذجاً لتحقيق تلك السياسة التي سيتّبعونها على نطاق أوسع وأخطر عندما يجدّ الجد عند العرب وتصبح مطالبهم في استرداد حريّتهم وحقوقهم مطلب العمل والتحقيق»! (ص159).
كل ما سبق من نصوص كُتبت ونشرت قبل سبعة عقود، وآخر سطر فيها «فلكلّ أذن عربية وهبها الله حاسّة السمع أن تسمع... وأن تعي ما تسمع» فكيف إذا كانت تقرأ وترى وتعرف؟!