ثمّة شعراء يكتبون الشعر وآخرون يعيشونه. ربما يكون فرناندو بيسووا (1888ـــ 1935) النموذج الأوضح من الصنف الثاني. تلاشت الحدود الوهمية بين حياة الشاعر البرتغالي القصيرة، وبين ما كتبه بحيث لا يمكن لقارئ أن يتناول شعره بمعزل عن حياته. ولعلّ ذلك يكون أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت بالروائيّ الإيطالي أنطونيو تابوكي إلى إنجاز روايته «هذيان: أيام فرناندو بيسووا الثلاثة الأخيرة» (2000) الصادرة حديثاً عن «دار طوى» بترجمة وتقديم الشاعر اللبناني اسكندر حبش.حكاية تابوكي مع بيسووا بدأت في محطة القطار العائد من ليون الفرنسية إلى إيطاليا حيث ابتاع كتيّباً لكاتب مجهول بالنسبة إليه، يحوي الترجمة الفرنسية لقصيدة «دكّان التبغ» التي وقّعها بيسووا باسم أحد بدلائه (ألفارو دو كامبوس) ليعترف بعد قراءتها بأنّ الأمر «كان بمثابة اكتشاف بالنسبة لي، بمثابة قوّة خارقة، إلى درجة أنني قرّرت تعلّم اللغة البرتغاليّة سريعاً.

قلت لنفسي: إن كان هناك شاعر يكتب قصيدة ساحرةً إلى هذه الدرجة، فعليّ إذاً تعلّم لغته». لن يتوقّف الأمر عند هذا الحد. سيتجاوزه ليغدو أثر بيسووا واضحاً في مسيرة تابوكي الأدبية لاحقاً. صاحب رواية «بيريرا يدعي»، المنشغل بمفهوم الرّوح المتعددة، يجد نفسه أمام مثال صارخ استطاع خلال حياته القصيرة أن يوجد عدداً من البدلاء له يكتبون الشّعر كلّ منهم بصوته الخاص. كما استطاع أن يجعل لكلّ منهم شخصيّة متفرّدة، وسيرة ذاتية لا تشبه الآخرين، فعاش مجموعة من الحيوات في حياة قصيرة، مجسّداً بذلك نظرية التوالد بالانقسام للهويّات التي شغلت تابوكي وجذبته إليه، وجعلته حين يكتب روايته «هذيان: أيام فرناندو بيسووا الثلاثة الأخيرة» يقرّر أن تنشر باللغة الفرنسيّة قبل نشرها باللغة الإيطالية التي كتبها فيها.
في هذه الرواية التي لم تتجاوز صفحاتها الخمسين، يتخيّل تابوكي أيّام بيسووا الثلاثة الأخيرة أثناء نزاعه الأخير قبل الموت في «مستشفى سان لوي» الفرنسي في لشبونة. يزوره بدلاؤه الذين اخترعهم، ويمرّون بجوار سرير موته كأنّما جاؤوا للاعتراف بأسرارهم، وطلب الغفران والمناولة للحياة الأبدية. إلى جانب السرير الذي احتضن لحظاته الأخيرة، سيعبر كلّ من ألفارو دو كامبوس وألبرتو كايرو وريكاردو رييس وبرناردو سواريس وأنطونيو مورا. وهنا أيضاً يكتشف بيسووا في بدلائه جوانب كان يجهلها كأن يفاجئه كامبوس بقوله: «لقد كتبتُ سوناتة لم أطلعك عليها أبداً، تتحدّث عن حبّ سيزعجك، لأنّها مهداة إلى شاب. شاب أحببته وأحبني... بعد هذه السوناتة، ستولد أسطورة حبّك المكبوت، وسيشكّل ذلك سعادة لبعض النقاد» ليجيبه بيسووا: «إذاً أنا أغفر لك. كنت أعتقد أنّك لم تحبّ في حياتك سوى النظريات». يقارب تابوكي بذلك جانباً لا يقلّ غموضاً عن الجوانب الأخرى لبيسووا الذي عُرف أنّه لم يحب يوماً سوى أوفيليا كيروز زميلته في شركة الحسابات التي كان يعمل فيها، وقد أحبها لشبه اسمها باسم أوفيليا بطلة مسرحية شكسبير الذي فُتن بأعماله على الدوام. حبٌّ لم يدم أكثر من تسعة أشهر.
في زيارة برناردو سواريس، يقترب تابوكي أكثر من الفكرة المحوريّة لعمله التي يحاول من خلالها الإجابة على السؤال الأكثر جدليّة حول علاقة بيسووا ببدلائه. حين يتحدّث بيسووا لسواريس عن أنطونيو مورا، يفاجأ سواريس: «لم تحدثني عنه مطلقاً. أرغب في معرفة شيء عنه. حسناً، قال بيسووا: إن أنطونيو مورا مجنون، على الأقل إنّه مجنون بشكل رسمي، لكنه مجنون مستنير». وهنا يقفز تابوكي إلى أعماق بيسووا لينطقه بلسان أنطونيو مورا عمّا ابتغاه من حيواته المتعددة. «لقد قال لي أشياء كثيرة. أجاب بيسووا. قال لي في البداية إنّ الآلهة ستعود، لأن قصّة الروح الواحدة هذه، وقصّة الإله الواحد ليستا سوى شيء عابر، وإنّها في طريقها إلى الانتهاء خلال زمن تاريخيّ قصير. وحين ستعود الآلهة سنفقد وحدانية الروح هذه، وباستطاعة روحنا أن تصبح متعدّدة من جديد، مثلما ترغب الطبيعة في ذلك».
ثلاثة أيّام يكتب تابوكي سيناريوهاتها بلغة شيّقة، يحاول من خلالها أسر لحظات يفترض أنّها لا بدّ قد حدثت، قبل أن يطلب بيسووا نظاراته من الممرضة ـ كما ورد في سيرته ــ ويدوّن آخر عبارة له: «غدي؟ لا أدري كيف سيكون غدي.» وهو يحتضر. وبذلك، يحاول تابوكي إتمام سيرة الحيوات المتعدّدة بإخلاص لشاعر كان له الأثر الكبير في ما يكتب هو القائل: «الكتابة ليست مهنة. إنّ الأدب شيء أخلاقي. لا نستطيع أن نجعله بيروقراطيّاً».