أعتقد أن أي كتاب نقرأه سنتأثر به بشكل أو بآخر، خاصة إذا ما وجدنا في أفكاره ما يتقاطع وحياتنا. كأن يكون مثلاً عبارة عن سيرة ذاتية، أو لنقل بعبارة أدق تتبع لسيرة ذاتية، فالسيرة الذاتية برأيي يدونها  الكاتب شخصياً، أو تكتب وفقا لسيرته حرفياً، لكن تتبع سيرة و أثر كاتب ما، يكون مختلفاً وصعباً أيضاً، لأن كاتبه يبحث في المجهول عن حقيقة يعرف نهايتها لكنه لا يعرف كيف تشكلت وما الأسباب التي دعت إلى ذلك. وطبعاً من خلال كل هذا، يكتب سيرته هو من دون أن يدرك ذلك أو عن سابق دراية، فهو يحاول إيجاد نفسه من خلال تتبع سيرة قد تتقاطع وسيرته، وسيرة كثيرين، إن نحن نظرنا إلى الموضوع بشكل عام من دون محاولة تأطيره وفقاً لصبغة معينة. قد يبدو كلامي غامضاً بعض الشيء ، لكن عندما قرأت كتاب الشاعرة والكاتبة المصرية المقيمة في كندا إيمان مرسال «في أثر عنايات الزيات» (الكتب خان ـــ 2019)، شعرت أن هذا  الكتاب هو بحث في حياة إيمان نفسها، بالرغم أنها في  هذا العمل استجمعت كل ما أمكنها لكي تتبع أثر عنايات في الأمكنة، الشوارع، الأصدقاء، أي شيء يمكن أن يشكل لديها صورتها، تقول إيمان: «قبل أن تتحول عنايات من كاتبة مجهولة إلى ندّاهة تطاردني، قبل أن أرى صورتها، وأسمع طرفاً من أخبارها، و أشعر أنني مشدودة من أنفي لمعرفتها، كنت أبحث عن الكنز، عن أرشيفها الشخصي الذي لا بد أنه هناك، متفرق بين البيوت وجغرافيا القاهرة وفي ذاكرة من تبقى من حياتها من أحياء».
فمن هي عنايات الزيات وما علاقة إيمان مرسال بها، وما الدافع الذي حفزها إلى الكتابة عنها؟ 
عنايات الزيات، هذه الكاتبة المصرية التي انتحرت لأن دور النشر، رفضت نشر عملها، لتبقى روايتها «الحب والصمت» من دون ناشر، لتقرر كسر الصمت بالانتحار، تاركة خلفها الكثير من الأسئلة التي تبحث عن أجوبة.. 
هل كان انتحار الزيات بسبب رفض دور النشر لعملها، أم أنه جراء الاكتئاب الذي رافقها منذ الصغر بدءاً من الأسرة حتى الزواج والفشل في تكوين أسرتها، وخوفها من فقدان ابنها؟ فإيمان مرسال تصفها بقولها: «كان الاكتئاب قريناً قديماً إذا، لقد كبر معها منذ الطفولة ولم تكن لحظة الانتحار إلا حلقة من صراع طويل انتصر فيها». أم أنّ الكاتبة جمعت في هذا الكتاب شيئاً منها وشيئاً من عنايات وأثرها لتجيب عن السؤال الأكبر الذي تتوحد فيه السير لتكتب سيرة حياة مشبعة بالألم؟ 
فهي ترى أن «متتبع الأثر يشبه أحياناً من يبحث في الأرشيف، كل منهما يواجه أشياء متنافرة وعشوائية تحتاج إلى من يتأملها ويجد العلاقات بينها، كل منهما يبحث عن مصداقية للتأويل.»
تشد إيمان بيد قارئها لتورطه في حكاية تجعله متماهياً مع تفاصيلها، مشدوداً لكل تفصيل فيها، يبحث فيها عن أصل الحكاية التي جعلت إيمان بعد عشرين سنة تعود إلى رواية «الحب والصمت»، كي تبحث من خلال هذا العمل الذي بهرت به، عن بصيص نور يقودها إلى عنايات، للبحث في سبب انتحارها وسبب اكتئابها. 
أحياناً يقودنا فهم أشياء نعتقد أنها واضحة إلى فهم أنفسنا، وأحياناً عبارة في رواية تربطنا بشيء له صلة بحياتنا، وهنا برأيي تتضح قوة الأدب، فالكتاب ليس تخليداً لسيرة عنايات ولا تمجيداً لها، بقدر ما هو البحث عن الدوافع التي جعلت منها مكتئبة، مما سهل لديها فكرة الانتحار كخلاص نهائي من كل الأوجاع، على الرغم من أنها كانت من عائلة برجوازية، كما أنها كانت متزوجة برجل أعمال ثري. 
هل كل هذه الأشياء تدعو إلى الانتحار أو ما الذي قاد عنايات للانتحار، وماذا تريد إيمان من فكرة هذا الكتاب؟
القارئ للكتاب كما ذكرت سابقاً يجد فيه جزءاً لا يستهان به من شخصية إيمان نفسها وما كانت تشعر به، إذ عبرت عن الحالة التي انتابتها بقولها: «بدت النهارات عمليات عبور بالغة الصعوبة لساعات العمل والليالي حفراً أسقط فيها بلا أمل، والأسوأ من كل هذا العودة للطبيب النفسي لمدة ساعة كل أسبوع.» 
هنا نلحظ أن الكتابة ليس سيرة محضة لعنايات الزيات ولا سيرة إيمان مرسال فقط بل هو محاولة فهم الأسباب التي تقود الإنسان إلى الانتحار، والأكيد ليس السبب رفض نشر عملها بل يتعدى ذلك إلى ما عبرت عنه إيمان بقولها: يشير إلى قصور مفهوم الحرية الفردية، الحرية لا تتحقق بالذات وحدها، وإنما تتحقق بالآخرين. وعندما يتنكر الآخرون تصبح حريتنا جدباً وفقداً ومأساةً.
«في أثر عنايات الزيات» ليست سيرة لعنايات وحدها، بل سيرة المرأة حين تنكسر وحين تضعف، وحين تقسو عليها الحياة، وحين تحب أيضاً، ما يذكرني بالكلمة التي ألقاها عبد الرزاق قرنح بمناسبة فوزه بنوبل، (ترجمها ‏ للعربية مؤمن الوزان) إذ يقول «لا تكمن الكتابة في الحديث عن شيء واحد، أو هذه القضية أو تلك، أو هذا الشأن أو ذاك، وما دام أنها تهمُّ الحياة البشرية بطريقة أو بأخرى، يصبح موضوعها عاجلًا أو آجلاً في القسوة والحب والضعف.»
إيمان مرسال «في أثر عنايات الزيات» أرادت القول إن الكتابة ليست فقط علاجاً وإنما هي أيضاً رهان ضد ما يخبئه المستقبل للمرأة، فالكتاب برغم أنه جاء بخطاب أنثوي صادق إلاّ أنه أيضاً كتاب للإنسان الذي يحاول أن ينهض مجدداً لمواجهة الحياة إذ أن إيمان حيث كتبت حقيقة عن عنايات لكنها حين كتبتها كتبت الكثير من النساء، وهذا ما يشد القارئ، إذ يشعر أن فيه رسالة معينة له تحديداً.
ربطت إيمان بين عنايات الكاتبة التي تحلم بطباعة روايتها وبين الإنسانة في أصدق لحظاتها العادية، إذ إنها حين تقترب من المرأة والكاتبة في الوقت ذاته، لتعرف عنها ما يساعدها على معرفة عنايات أكثر فأكثر.
تحدثت إيمان في الكتاب عن لطيفة الزيات، أنيس منصور، مصطفى محمود يوسف السباعي، كما أنها تناولت علاقة الصداقة التي جمعت عنايات ونادية لطفي إذ تقول: «لا بد أن هذا ما يحدث عندما يفقد المرء صديقاً. تظل لحظة الفقد حاضرة بكل تفاصيلها كأنها اللحظة الثابتة التي يعاد منها تذكّر كل ما سبقها مرات ومرات».
إن كتاب إيمان عن عنايات متعدد القراءات مع أن السيرة واحدة وواضحة، لكن اقتفاء أثر الحقيقة ومحاولة المسك بها، واعادة صياغتها صعب ذلك أن: «للحقيقة الصغيرة كلمات واضحة، وللحقيقة العظيمة صمت عظيم» كما يرى طاغور وحقيقة هي عنايات كانت موزعة على أكثر من صعيد. 
 برأيي رسالة الكتاب هي تلك الدعوة الخفية لكل واحد منا للبحث في نفسه ومحيطه وكل ما يتعلق به، كي يفسر الظروف التي يمر بها، كما أنه يتحدث عن الحرية التي لا تتحقق إلاّ بالآخرين. 
إنه دعوة للتصالح مع الذات وفهمها كما يتوجب، وطبعا تعريف بعنايات الزيات كاتبة وإنسانة. كما أنه إشارة إلى أن سحر الكتب يتجاوز فكرة أنها رفاهية للإنسان، فهي في الأغلب تتجاوز ذلك لتكون الرفيق المنقذ، وهذا ما تركه كتاب «حب وصمت» من أثر في وجدان إيمان مرسال، ليتحول بعد ذلك إلى كتاب ثان يقود هو الآخر إلى عنايات الزيات  
 ليبقى السؤال مطروحاً، أيهما أثر بالآخر إيمان مرسال أو عنايات الزيات؟
وبين هذا وذاك سيظل القارئ ممتناً لهذه السيرة التي تقول إن الأدب قادر على أن يبعث مجدداً للحياة من استطاع وأن الحرية مهما تأخرت في الوصول، إلا أنها ستجد طريقها إلى كل من يؤمن بها. 
استمعت إيمان مرسال لكل شيء يمكن أن يقودها إلى عنايات الزيات، كي تعيد سرد قصتها للجميع. 
يقول أنطونيو تابوكي: 
«‏أنا رجل يحب الإصغاء. واعتقد أنّ على كل روائي أن يكون مستمعاً جيداً. ما اسمعه ويعجبني، أجعله ملكي، وأرويه على طريقتي».