وقت طويل مرّ منذ عام 2005، حين أوقفت مجلة «روز اليوسف» مقالة سيد القمني الأسبوعية. كان قد نشر ست مقالات متتالية إثر تفجير طابا في 2004، نقد فيها ما اعتبره المتشدّدون هجوماً على الثوابت، أدّت إلى وصفه بالمرتدّ والملحد. آنذاك، أعلن القمني ليس فقط اعتزاله الكتابة، بل «توبته» عن أفكاره، فانقسمت الآراء حوله. وصفه مفكّرون بالجبن، وآخرون رأوا في قراره شيئاً من الحكمة والحق في الخوف على النفس. آخرون رأوا في الأمر كلّه مسرحية، خاصة حين أعلن أنّ رسالة تهديد بالقتل قد وصلته من «جماعة الجهاد» السلفية. لم تكن هذه أوّل مرة يواجه فيها القمني الإسلاميّين ومن ثم النيابة بسبب دعاويهم ضده. حين نشر كتابه «رب هذا الزمان» الذي مُنع وصودر، جرى استجواب الكاتب على ما جاء فيه، واليوم الكتاب منشور مع ملف القضية كاملاً، وضمنه نماذج من التحقيق معه ومقدمة بعنوان «كلام خارج السياق» يرد فيها على التقرير الذي مُنع بسببه الكتاب.

خفت حضور القمني مع السنوات قليلاً، وإن تراجع عن قرار اعتزاله، لكن الضجيج عاد في 2009 حين حصل على جائزة الدولة التقديرية، فأقام شيوخ دعوى قضائية على وزارة الثقافة تطالب بسحب الجائزة منه، مرفقة بتقرير شيخ الأزهر أحمد الطيب ضمّنه الرأي العلمي في كتابات وأفكار القمني اتهمه فيها بالتطاول على الرسول والصحابة والتحريف. كما أصدر مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر تقريراً مفصلاً عن 12 كتاباً من تأليف القمني، لم تنجُ من المنع والمصادرة، ووصفها بأنّها «غير صالحة للنشر والتداول».
عاد نجم القمني للظهور بعد ثورة يناير، حين أطلق تصريحات هجومية ضد الإخوان المسلمين في 2013 وضد وصولهم إلى السلطة، وخصّ بالهجوم يوسف القرضاوي. في 2016، دعا إلى جمع توقيعات لتقديمها للأمم المتحدة بهدف إدراج الأزهر ضمن المنظمات الإرهابية، معتبراً أنّ الإصلاح يبدأ بإقفال هذه المؤسسة. القمني لم ينتقد فقط المؤسسات الدينية، ولم يخض فقط في كتبه في جدال تاريخي حول تأسيس الإسلام، وجذور الدولة الدينية، والتأريخ التوراتي، والتراث الإسلامي، والجماعات الإرهابية والقومية والعروبة، بل كان ناقداً لاذعاً لقضايا اجتماعية راهنة تتعلق بالتعليم والمناهج الدراسية، وفرض الحجاب وواقع المرأة المصرية وتعدّد الزوجات.
لكن من ينظر في تصريحات القمني، يلمس أنّ بعضها كان يهدف إلى الاستفزاز ليس إلا. إذ لم يقف معنى معرفي حقيقي خلفها. تظهر أحياناً كما لو أنّها مناسبة لجمهور المنبر الذي يتحدّث فيه. وربما مرد ذلك ظهوره الإعلامي الغزير، بخاصة في محطات التلفزة الأميركية كـ «الحرة» التي أجرى عليها آخر حواراته قبل رحيله بأيام، والمؤسسات الأوروبية مثل «أدهوك» البلجيكية التي ألقى على منبرها محاضرة حول جذور الإسلام استندت إلى مواضيع مثيرة تتوافق مع شهية المستمع الغربي. منابر كان يطلق منها عبارات تجلب عليه النقمة أو تجعله حديث السوشال ميديا، من ذلك أن يصف العرب في الجاهلية بأكلة لحوم البشر، اعتماداً على واقعة واحدة عثر عليها في أحد كتب التاريخ، أو يهاجم أحاديث حول جواز استمناء الصائم بيد طفلة أو وطء الرضيعة، أو أن يدعو إلى إنشاء مزار ديني بديل للكعبة على جبل سيناء يوفر وجهة بديلة ميسورة الكلفة للحجاج الفقراء. ويمكن للمزار أن يحسن العلاقات بين الديانات الإبراهيمية الثلاثة لأن جبل سيناء مهم في المسيحية والإسلام واليهودية.
شكّل القمني حالة في الثقافة المصرية، والعربية بشكل عام، انطلق من دراسة الأديان الإبراهيمية الثلاثة والمقارنة بينها، وقدم الكثير من الأفكار التي يعتدّ ببعضها، وتلك التي يمكن السجال معها أو حتى رفضها. ومثلما حدث حين رحلت المفكرة النسوية نوال السعداوي، فمنذ إعلان وفاته، يتداول خصومه ــ من سلفيين ومتشددين ومن كرهوه فقط لسجاله في ما لا يطيقون على الخوض فيه ــ مقاطع مجتزأة ومشوهة من محاضراته ولقاءاته.