الإعلان عن صدور «الغريب» بالعاميّة المصريّة (دار هنّ ــ القاهرة) للمترجم المصري هكتور فهمي، أعاد إلى الواجهة الكثير من الأسئلة حول «الفصحى والعامية»، وقدرة الأخيرة على نقل جماليّات النصّ الروائي، فضلاً عن الاتّهامات بأنّ ذلك يُعدّ موقفاً سياسيّاً وأيديولوجيّاً إزاء «الهويّة» العربية وبمثابة دعوة للتقوقع والانغلاق على الذّات وتعزيز «الهويّات» الضيقة.وبينما تحوّل الأمر إلى تريند يحمل في طيّاته الكثير من السّخرية والاستقطاب بين الأطراف المختلفة؛ نطرح الأمر على طاولة نقاش الكتاب والمترجمين وأساتذة الأدب في محاولة للبحث في الموضوع من زوايا متعدّدة.
تواصلنا مع المترجم هكتور فهمي الذي أطلق مصطلحاً يخصّه، قائلاً «أنا بترجم للمصريّة الفصحى لا العامية». ما الفرق؟ يوضح: «اللّغة المصريّة التي نتحدّث بها اليوم لغة كاملة لها قواعدها النحويّة وبلاغتها. كما أنّها منفصلة عن الفصحى وتركيباتها اللّغوية وقواعدها، وهذا هو الواقع الذي نعيشه وعلينا تقبّله بدون إنكار».
جهاد العامري ــ «كاليغرافيا عربية» (ألوان مائيّة وحبر وقلم لبدي على ورق ــــ 16 × 12 سنتم ــــ 2018)()

أمّا في ما يخصّ موقفه من اللّغة العربية، فيُشير إلى أنّه لا يُعتبر الفصحى لغته: «أنا قرّرت التّرجمة إلى المصريّة ببساطة لأنها لغتي. أما اللّغة العربية، فلا تمثّلني ولا أملك تجاهها أيّ موقف سواء بالإيجاب أو السّلب».
استغرقت ترجمة «الغريب» من الفرنسيّة إلى العاميّة سبعة أشهر وفق فهمي الذي يقول عن كواليس التّرجمة: «عندما اتّفقت مع «دار هن للنشر»، كان طبيعيّاً أن أختار مستوى لغويّاً يُناسب أسلوب كتابة ألبير كامو، حتى أستطيع التعبير عن رواية فلسفيّة بهذا العمق، وبالتالي وقع اختياري على ما أسمّيه المصرية الفصيحة. وكان الأمر شديد الصعوبة، خصوصاً أن معجم المصرية لم يتطوّر، ما جعلني أقف عند الكثير من التعبيرات. كما استعرتُ بعضها من اللّغة العربية أو استبدلتُ تعبيراً لا أجد نظيره في المصريّة باللّغة الوصفيّة».
لدى فهمي مشروع لترجمة الكلاسيكيّات العالميّة باللّغة المصرية، بدأه عام 2018 بترجمة رواية «الأمير الصغير» التي يرى مبيعاتها في مصر والوطن العربي دليلاً على نجاح الترجمة إلى المصرية: «بيعت نسخ كثيرة في الدول الأوروبية أو الدول العربية أو حتّى عند جيراننا الشوم. كما أن باحثة لبنانية أجرت مقارنة بين ترجمتي المصريّة والترجمة اللبنانيّة، وفضّلت الترجمة المصرية. ما يُثبت أنّ لغتنا مفهومة ومحبوبة في البلاد المجاورة، وهذا يرد على الإدّعاءات بأنّ الأعمال المكتوبة بالمصري تقتصر على المصريّين فقط».
يستهدف فهمي من هذا المشروع لفت الانتباه إلى حالة الازدواج اللّغوي السائدة في مصر: «ندرس ونتعامل في الجهات الرسمية باللّغة العربية، وهي لغة مختلفة عن لغتنا الأم «اللّغة المصريّة»، فالطفل يدرس لغة وقواعد ويتحدّث لغة أخرى، وهو ما يمثّل أحد أسباب تدنّي مستوى التعليم في مصر، ويسهم أيضاً في زيادة الفجوة بين القراءة والثقافة».
وعن الجدل المثار حول ترجمته، يوضح: «بمجرد الإعلان عن ترجمتي بالمصري، تخيّل بعضهم أنّني استخدمت مستوى لغوياً ضعيفاً أو عامياً، لأنهم يعتبرون اللّغة المصرية مجرّد مستوى سوقي من العربيّة، لا لغة مستقلّة وهي نظرة منحازة ومتعالية».
في السّياق نفسه، نسأل الباحث في الأنثروبولوجي رجائي موسى، صاحب «دار هن للنشر» عن خطوة الترجمة بالمصري، فيُجيب: «أستهدف كلّ القرّاء بلا استثناء. هي تجربة في اللّغة وفي الترجمة، مطروحة للجميع وتقدّم ذائقة مختلفة. لغتنا المصرية قادرة على الانتشار في محيطنا العربي بسبب الانتشار الثقافي والفني المصري». موضحاً: «فكّرت في الأمر عندما قرّر هكتور ترجمة «الغريب» إلى العامية، لكن أثناء تحريري للنص، وجدت أنه استطاع نقل جماليات النص الأصلي ولم تؤثّر اللّغة في ذلك».
وعن الجدل المثار حالياً، يعلّق: «هناك رؤية طبقيّة تجاه اللّغة العامية التي نتحدّث بها يومياً، وبالمناسبة هي أحد مستويات اللّغة المصرية لأنه حتى القرن السابع الميلادي، كانت الكتابة موجودة باللّغة المصرية التي يقصدها هكتور فهمي، وقد تطوّرت إلى ما وصلنا إليه الآن. هي لغة كاملة لها تراكيبها وقواعدها تمثّل مستوى لغوياً أعلى من العامية الدارجة أو المتداولة. أما اللّغة الفصحى، فلا تتداولها إلّا النخبة». وردّاً على من يعتبر أنّ الترجمة إلى العاميّة ينال من الفصحى، يقول موسى: «لا يمكن رؤية الأمر بهذا الشكل. اللّغة العربية أحد الروافد الرئيسيّة للّغة المصرية، والعلاقة بينهما ليست تكاملاً بقدر ما أصبحت ارتباطاً وثيقاً، يثري كل منهما الأخرى. وبالتالي أي محاولة في العامية هو إثراء للثقافة واللّغة العربية أيضاً».

عبدالرحيم يوسف: أفق للتجريب
عن تجربة هكتور فهمي السابقة في ترجمة «الأمير الصغير»، يوضح المترجم المصري عبدالرحيم يوسف: «أرى أنها تجربة مختلفة وجيدة. يمكن مناقشتها ببساطة كتجربة لكنني لا أتفهّم تلك الاتهامات الدائمة بأن ذلك ينال من العربية. إنّها محاولات لإثراء اللّغة العامية بدون الإساءة للفصحى. والغريب أن تلك الاتهامات تواجه أي محاولة للإبداع. فحتّى قصيدة النثر تم اعتبارها هجوماً على هوية القصيدة العربية. وفي رأيي، نحتاج إلى أفق يسمح بالتجريب والإبداع».
يوسف صاحب تجربة نقل «حلم ليلة صيف» لشكسبير إلى العامية بعنوان «حلم فــ ليلة صيف» (2016)، يرى أن الجدل المثار حول الترجمة إلى العامية، اتخذ أبعاداً مختلفة وأصبح مجرّد تريند مسيء، باعتبار أن استخدام العامية يسيء إلى لغة القرآن وينال من اللّغة العربية. يوضح لنا: «يُفترض أنني محسوب على طرف اللّغة العامية الآن باعتبار أنني خضت تجارب مختلفة في الترجمة إلى العامية كما أنني شاعر عامية. وبالتالي، فأنا أعتبر الترجمة إلى العامية حقاً طبيعياً للمترجم. ومن حق القارئ أن يرفضها ببساطة من دون اتّهامات أو إساءات. الغريب أنّ كل ذلك حدث قبل حتى قراءة العمل».
هناك مبررات تنظر إلى العربية الفصحى بصفتها «مقدّسة» ولغة سلطة (ا. ف)


هل العاميّة لغة قراءة؟ يجيبنا يوسف: «تراثنا في القراءة يعتمد الفصحى بشكل رسمي، ما يمكنني اعتباره انحيازاً، وهناك في المقابل ثقافة شعبية تعتمد بشكل أساسي على العامية. وطوال قرنين سابقين، نجد محاولات كثيرة لمواجهة ذلك الانحياز الرسمي للعربية، وهو ما تم تقبله في الشعر أو الزجل، لكن لا تزال العامية في الرواية والنصوص الأخرى محلّ شك واتهام. مع ذلك، وجدنا محاولات كثيرة أخيراً حتى في كتابة نصوص كاملة بالعاميّة لا مجرّد الترجمة منها مثلاً رواية «المولودة» (2018) الحاصلة على «جائزة ساويرس»، فضلاً عن محاولات كثيرة وملحوظة في ترجمة مقالات فكرية وفلسفية إلى العامية».
يختلف عبدالرحيم يوسف مع الرؤية الطوباوية القائلة بأن الترجمة العامية تصل بالثقافة إلى شرائح أكبر. يعلّق: «جمهور الأدب طوال الوقت من الطبقة الوسطى ممن يملكون مساحة من الثقافة والتعلّم، وبالتالي الترجمة إلى العامية مجرد محاولة لإيجاد وسيط يناسب نصّي يقرأه الجمهور نفسه. والأمر بتوقّف بشكل أساسي على طبيعة النص، فأنا لا أقدر على ترجمة «هاملت» إلى العامية مثلاً».
خلال السنوات الماضية، شهدنا الكثير من تجارب الترجمة إلى العامية أبرزها ترجمة مصطفى صفوان لمسرحية «عطيل» إلى العامية المصرية. أيضاً ترجمت ناريمان الشاملي «رسالة الغفران» للمعري، وكذلك نقل المترجم محمود حسنين رواية «لبن النمرة» من الألمانية إلى العامية.
لم تقتصر تلك المحاولات على العامية المصرية، إذ نقل المترجم ضياء بوسالمي رواية «الأمير الصغير» لأنطوان دو سان إكزوبيري، إلى العامية/ الدارجة التونسية بعنوان «الأمير الصغرون». بدورها، ترجمت الأخيرة إلى اللّهجة المغربية و الإماراتية أيضاً، كما نقل هو الآخر رواية «الغريب» إلى العامية التونسية.

منصورة عز الدين: محاولات «هامشية»
تُشير الصحافية والروائية المصرية منصورة عز الدين إلى المحاولات التي أشرنا لها من وجهة نظر مختلفة: «محاولات كثيرة سابقة في الترجمة للعامية تطرح سؤالاً حول سبب عدم نجاح هذه المحاولات أو تصبح هي التيار الأكبر في الترجمة. وأظنّ أن الإجابة على هذه التساؤلات تدلّ على أنّ الأمر سيظل مجرّد محاولات فرديّة وتجريبيّة على الهامش». لم تهتمّ عز الدين بالاستقطاب والجدل حول العامية والفصحى، قائلة: «من حقّ كلّ شخص أن يترجم وأنا كقارئة سأختار الترجمة المناسبة لي ولذائقتي». وهي لا ترى أي تعارض بين العاميّة والفصحى: «من الطبيعي أن يكون هناك تكامل بين العاميّة والفصحى وليس حرباً أو هجوماً، فالعامية مستوى من مستويات تطور اللّغة العربية ولا أنظر إليها باعتبارها لغة منفصلة، يمكن استخدامها مثلاً في الحوار الروائي لإظهار طبيعة الشخصية والأجواء المحيطة بها وطبقتها الاجتماعية. الأهم هو توظيف المحكية العامية بشكل صحيح وجزء من عشقي للغة العربية هو إجادتي لمحكيّاتها المختلفة لأنها جزء من هويّتنا وثقافتنا».
أما في ما يخص ترجمة رواية إلى العامية، فعلّقت: «فكرت في ذلك من زاوية مختلفة، هي أن أتخيّل التعامل مع نصّي أنا، وترجمته إلى اللّغة المحكيّة بلغة ما، وبالتالي شعرت أنني ككاتبة أفضل أن تترجم رواياتي إلى مستوى لغوي قريب من المستوى الذي كتبت به. فلو كان نصي عربياً كلاسيكياً، أتمنى ترجمته بمستوى مناظر له في اللغة المقابلة. الأمر نفسه ينطبق على ترجمة ألبير كامو. من المهم الحفاظ على روح النص في لغته الأصلية عند الترجمة».

اللّجوء إلى المحكيات يؤدي إلى تفتيت التراكم الثقافي لكل قطر عربي (أ ف)


أثناء ترجمة روايتها «وراء الفردوس» (2009) إلى اللّغة الألمانية، دار الحديث مع المترجم حول كيفيّة نقل الحوارات العامية التي يتضمّنها النص. تقول عز الدين: «قلت للمترجم إنّني أفضّل نقل الحوار العامي في الرواية إلى المحكية الألمانية ليظهر الفرق بين مستويات اللّغة في النص. لكن وجود الكثير من العاميات الدارجة في المناطق المختلفة في ألمانيا وضع المترجم في ورطة»، موضحة أيضاً: «العامية لا تُفيد النص على مستوى الانتشار كما يظن بعضهم، فالطّبقات التي يظن كتّاب العامية أنهم يتوجّهون إليها، ربما تفهم العامية عندما تكون لغة منطوقة. لكن ذلك لا ينفي أيضاً أنّ هناك بعض المستويات الثقافية التي قد تصلها أفكار الرواية بشكل أسهل في الترجمة العامية».

فاطمة قنديل: توحيد اللّسان من وظائف الدين
من جهتها، أوضحت أستاذة الأدب العربي في جامعة حلوان فاطمة قنديل أنّ «قضية العامية والفصحى قُتلت بحثاً، لكني أجد أن الأمر يتوقف على عمل المترجم. مثلاً، يمكن أن يكون العمل مسرحية عامّية في لغته، وبالتالي عند ترجمته إلى الفصحى يتحوّل إلى نص كوميدي. وربما الأمر مختلف في الرواية حيث يتطلّب الأمر مترجماً على درجة عالية من الاحترافية». مؤكّدة: «بشكل عام، لا قانون يسري على كل الأشياء، فالأمر يعتمد على العمل نفسه. نحن لدينا لغة وسيطة استخدمها توفيق الحكيم. كما أن الناقد الكبير لويس عوض استخدم لغة عامية».
وعمّا يسمّى معركة الفصحى والعامية، قالت: «نتعامل دائماً على أنّهما نقيضان، لكن الأمر أبسط من ذلك». ترد قنديل على وجود عاميّات مختلفة في مواجهة العربية الموحّدة: «توحيد اللّسان العربي من وظائف الدّين لا الأدب. المهم في كل هذا الجدل أن يكون هناك قارئ يستمتع بهذا النص. كما ننتظر أن نرى نوع العاميّة المستخدمة: هل هي عاميّة ركيكة أم مستوى آخر من العامية».
وعمّا إذا كانت العاميّة قادرة على نقل حمولات وأفكار النص المترجم؛ تجيب قنديل: «طبعاً. نمتلك رصيداً من شعر العامية المليء بالجماليات التي تفوق أيّ قصيدة عربية أصلاً».
وردّاً على من يعتبر أنّ الترجمة إلى العامية تنال من «الهويّة العربية»، أوضحت: «لديّ تصوّر أنّ لا هوية عربية من الأصل، لأنها دائماً في حالة تشكل، ليست شيئاً ثابتاً ومتماسكاً. لكنها حالة من حالات التفاعل. وفي فعل الترجمة، أنت تتفاعل مع العالم، ما يقتضي عدم وجود هوية ثابتة ليكون ذلك التفاعل حقيقياً. الهوية في حالة صيرورة دائمة». شارك أستاذ الأدب العربي والترجمة في «جامعة ليدز» في المملكة المتحدة سامح حنا، في الجدل المثار عبر صفحته الفايسبوكية، مشيراً إلى أن الفصاحة والعامية ليستا كتلتين مغلقتين واضحتي المعالم والحدود. وداخل كل منهما، هناك مستويات لغوية مختلفة، لها استخداماتها وسياقاتها ووظائفها. وتابع أنّ العلاقة بينهما ليست علاقة تنافر، بل تلاقح. فلا يمكن الزّعم بنقاء الفصحى تماماً من ملامح عامية في لحظات تاريخية بعينها، كما لا يمكن لأي عامية أن تزعم نقاءها من ملامح فصاحة.
وعن رؤيته لطبيعة الجدل بين الفصحى والعامية، أوضح: «في أغلبه، هو جدل حول سياسات الهوية المرتبطة بهما. وهذا أمر طبيعي، فكل هوية مبتناة ومنسوجة داخل الخيال الجمعي من مادة اللغة، وكل هوية تسعى في ابتنائها لذاتها إلى تمييز نفسها باحتكارها مستوى لغوياً معيّناً قاصراً عليها. الجدل حول مستويات اللّغة وعلاقتها بالهوية (دينية أو سياسية) مطلوب ونافع».