صدر، أخيراً ألبوم جديد للموسيقي والمغني الفلسطيني، باسل زايد، يحمل عنوان «أيضاً رأيت». يضمّ العمل 8 أغان، هي: «الكاذب»، و«رأيت أيضاً»، و«طائر أفريقيا»، و«ضجيج»، و«القتلة»، و«جلّاد»، و«انتظرناك»، و«هناك حدائق». يتبنّى زايد، في عمله الجديد، توجّهاً مختلفاً عن إصداراته السابقة التي اعتمدت على القصيدة الموزونة أو المحكية، أو على الموسيقى الآلية. ففي «أيضًا رأيت»، يختار الموسيقي ثماني قصائد نثر، لعدد من أبرز شعرائها، وهم: أنسي الحاج، ووديع سعادة، وعبّاس بيضون، وسركون بولص، وجورج شحادة (منقولةً إلى العربية بترجمة أدونيس). يخوض زايد، عبر اختياره لهذه القصائد، تجربةً في مساحةٍ لم يقترب منها سوى قلّة من المغنين والملحنين؛ إذ اقتصرت معظم تجارب الغناء العربي على نصوص شعرية تنتمي إلى القصيدة الكلاسيكية، أو التفعيلة، أو المحكية. يرى الموسيقي الفلسطيني، المقيم في الولايات المتحدة، في الشاعر أنسي الحاج، الذي يُفتتح الألبوم بقصيدته «متى صدق الكاذب»، شاعراً طليعياً في العالم العربي؛ فمجموعته «لن»، التي صدرت في عام 1960، كانت بمثابة رفض لكل ما هو سائد، شعرياً وفنياً وثقافياً، وحتى سياسياً، وجاءت لتؤسّس لمرحلة شعرية جديدة في العالم العربي.
وبالنسبة إلى زايد، فإن الموسيقى، أيضاً، لا بدّ لها من أن تنفتح على مساحات تجريبية أكثر رحابةً. من هنا، جاءت فكرة اختيار مجموعة من قصائد النثر، لشعراء قدّموا أعمالاً استثنائية، من شأنها أن تُغني ليس الشعرية العربية وحسب، وإنّما الموسيقى العربية أيضاً.
في هذا السياق، يتحدث باسل زايد عن عمله. يقول: «تأتّت موسيقى العمل من القصائد نفسها. عادةً، عند تلحين النصوص الشعرية، أستقي كثيراً من القرارات اللحنية والإيقاعية، إلى جانب خيارات الآلات الموسيقية والتوزيع، من إيقاع الكلام نفسه، أو رنين المفردات».
يضيف: «لكن، في هذا الألبوم، كان من الضروري التفكير في التلحين ضمن قالب مختلف. اختيار النصوص لم يكن هدفه التماشي، موسيقياً، مع إيقاع الشعر، وإنما مع فكرة النص نفسه. لذلك، حاولت في «أيضاً رأيت» أن أتقصّى المعنى، وأسعى خلف الجوهر الروحي والإنساني الذي تنطوي عليه هذه النصوص».
تبتعد الألحان، في «أيضاً رأيت»، عن الإطالة الموسيقية، وتميل أكثر نحو الاختزال والتقشّف. في هذا السياق، يقول زايد: «تأتي الألحان بسيطة ومباشرة، لأهمية دلالة النصوص نفسها، ولضمان اكتمال المعنى الشعري، من دون إقحام رؤية الملحن على أي من القصائد».
يضيف: «المحاولة اللحنية ليست بسيطةً؛ فالنصوص غير موزونة، ومحاولة إضفاء وزن شعري عليها، يحتاج إلى سبب فني واضح. لذلك، اخترت أن أترك القصائد بشكلها الأصلي قدر المستطاع، والعمل على تطويع النص الشعري للألحان، من دون الإخلال بالمعنى، ومن دون إضفاء معنى محدد، ذات اتجاه واحد، على النصوص. بهذا، جاءت النتيجة كلوحات موسيقية غنائية، تبرز المادة الشعرية على أنها الهيكل والمضمون».
يلجأ زايد في عمله إلى توزيع يتضمّن آلات مألوفة، صوتًا وشخصيةً، لتشكّل قاعدة موسيقية ترتكز إليها بعض الآلات الأخرى التي تضمّنها الإيقاع، مثل المطّاطة في أغنية «الكاذب». كما يهدف استخدام الآلات المألوفة، مثل البيانو والعود، إلى إبقاء تركيز المستمتع على النص واللحن، ليكون التوزيع الموسيقي إطاراً صوتياً يستوعب تعدّد الأفكار الشعرية وغرابتها.
تم الاعتماد في توزيع ألبوم «أيضاً رأيتُ» على نظرية موسيقى الجاز بشكل رئيسي؛ إذ تحتوي القطع على تفاصيل ائتلافية مفتوحة لاستيعاب تعابير وانعكاسات متعددة، تضفي هامشاً من الحرية لدى المستمع لإيجاد المعنى الشخصي.
في هذا السياق، يتحدث الموسيقي عن دور الإيقاع وأهميته في العمل. يقول: «الإيقاعات في هذا الإصدار لعبها ووزّعها ماتياس كُنزلي. فَهِم الأخير النصوص، وتعامل مع المادة الزمنية بشكل مختلف؛ إذ عمل على اختيار أصوات جديدة لإبراز القصائد، من دون الانحياز إلى المادة اللحنية". يضيف: "بتعبير أدق، تمكّن كُنزلي من إبراز معاني النصوص وتفاصيل الألحان والتوزيع بشكل متوازن ودقيق».
في «أيضاً رأيت»، تولى آلة التشيلو، العازف نسيم الأطرش. يوضّح زايد أن الأطرش، كما كُنزلي، قرأ القصائد أولًا، قبل أن يستمع إلى الألحان، ليعمل بناءً على انطباعه الذاتي والموسيقي، من دون أن ينساق وراء الموسيقى؛ إذ تُتاح له حرية التعبير عمّا قرأه من خلال آلته التي مثّلت عنصرًا أساسيًا في توزيع العمل، ودُفعت بالتعبير حتى أقاصيها؛ فتضمّن العزف عليها تقنيات مختلفة، تتراوح بين العزف المتواصل، أو المتقطّع، أو النقري.
لم يقتصر «أيضاً رأيت» على عناصر شعرية وموسيقية وحسب، وإنّما تضمّن أخرى بصريّة؛ إذ عمل الفنّان حسّان مناصرة على إنجاز رسومات خاصّة بالعمل، لكل أغنية/قصيدة رسمة انطباعية سوريالية، تستلهم من القصيدة وتتأمّلها، من دون أن تعيد رسمها، وإنّما تسعى إلى أن تكون قصيدةً بصريةً موازية.