انقطع اتصال البيت الأبيض الهاتفي مرّات عدة. تبعتها محاولات الاتصال. الرئيس باراك أوباما على الخط لتهنئة الرئيس تمام سلام في شباط (فبراير) 2014 رئيساً للحكومة. تهنئة كانت لتكون عادية كما في سياقات البروتوكولات بين الدول. لكنّ ريبةً ما دخلت حدس الرئيس سلام وتتعلق بواحدة من الجمل التي قالها أوباما: «أنتم مقبلون على مهمة صعبة جداً، وسوف نكون داعمين لكم بأقصى إمكاناتنا». كانت تلك الجملة إشارة إلى أنّ الأمور متجهة نحو الشغور الرئاسي. نص محضر مكالمة أوباما محفوظة في أرشيف الرئيس سلام، كما في الكتاب الصادر حديثاً «الدولة المستضعفة – تجربة حكومة «المصلحة الوطنية» وحقائق فترة الشغور الرئاسي» (دار رياض الريس للنشر) لعبد الستار اللاز الذي وافته المنية الشهر الماضي قبل صدور الكتاب. يستعين اللاز بأوراق الرئيس سلام عن فترة الرئاسة هذه. يكشف عن محطات ليست بالرمادية، وإن كانت ملاحظتنا على استنتاجات اللاز وتفسيره لها بأنها بَدتْ أقرب إلى الميول الشخصية السياسية السائدة لدى فريق معيّن.
كان همّ إدارة أوباما: مصالحها الحيوية، تدفّق النفط، منع تهديد الأسلحة النووية والكيماوية، والحؤول دون تسرّب العناصر المتطرفة من سوريا واليمن (انريكو بيرتوشيولي)

عن الكتاب، يقول اللاز: «هو ليس سيرة شخصية للرجل، ولا توثيقاً زمنياً مفصّلاً للمرحلة، بل عرض لمحطات أساسية واجهت الرئيس تمام سلام في هذه المسيرة التي أمضى منها عشرة أشهر وعشرة أيام وهو يسمع ويناقش ويواجه المناورات ويقلّب الصيغ لتأليف حكومة «المصلحة الوطنية»، وسنتين وعشرة أشهر وهو يقود في بحر هائج».
بعيداً عن سيرة تمام سلام الذاتية، وتربيته، واعتداله في مقاربته العمل السياسي، وفي الزعامة وراثةً وممارسةً، وميزة الصبر والانفتاح عنده، ففي صفحات الكتاب (365 صفحة) ما يدلّ على عدد من هذه الصفات كالوطنية في نظرته تجاه شرائح الوطن الواحد، والميثاقية، والميل للتحاور، ونبذ الكراهية والتحريض، والجرأة في مواقفه. ومثال ذلك: توضيحه للملك سلمان بن عبد العزيز عدم سيطرة «حزب الله» على الجيش اللبناني، والتمني على ولي العهد محمد بن سلمان أن يدعم الرئيس سعد الحريري كزعامة سنية (ص248-9)، مع الإشارة هنا إلى رفض تمام الطلب السعودي أواسط الثمانينيات من القرن الماضي قبول المساعدات السعودية من خلال رجل الأعمال يومها رفيق الحريري (ص26)، وهو ما تترجم غضباً من تمام في قريطم أثناء تقديم واجب العزاء باغتيال الرئيس الحريري عام 2005 (ص29).
تَوَقُّع السيسي بقرب سقوط النظام السوري على يد المعارضة


تحضر في الكتاب محطات سبقت تكليف سلام من جانب تدخلات السفراء العرب والأجانب (أمر يدركه سلام جيداً عن تاريخ العمل السياسي في لبنان). من هذه المحطات: زيارة السفيرين الأميركي والفرنسي لدارته بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 لـ «جسّ نبضه في إمكانية ترؤس حكومة تشرف على انتخابات 2005». ومثلها في أواخر عام 2011 عندما «وصلت إليه من السعودية عن أن المملكة تؤيد توليه رئاسة الحكومة»، ومثلها في عام 2012 في «تأييد السفيرين السعودي والكويتي له بتكليفه ترؤس حكومة وحدة وطنية مع تشجيعهما له بالتواصل مع قوى الثامن من آذار وخاصة حزب الله». للتوضيح، في المحطات المذكورة لم يرد أي تدخل للسفير الإيراني في لبنان... لكن ورد في الكتاب عن خط التواصل بين سلام و«حزب الله»: «لم تكن علاقة تقارب سياسي ولا حالة عداء»، ومواقف تفصل بين تأييده المقاومة وانتقاده تدخلها في سوريا مثلاً، مع ارتياح تام لحسن الجيرة في دارته وأمنها وأمانها في حي اللجا في المصيطبة حيث «نفوذ حركة أمل وحزب الله». إذاً، كان اتصال الرئيس أوباما نذير شؤم أوحى بتمدد الشغور في الرئاسة الأولى، تَبِعَه بعد أسبوع من الاتصال وصول وزير خارجيته يومذاك جون كيري وللغاية نفسها وقد تبدّت في تصريحه في السراي الحكومي، إلى الضغط المتواصل على سلام لحثّه على المزيد من الصبر إزاء التلكّؤ في الأداء الحكومي ومناكفات الوزراء وضبابية صورة الوضعين الإقليمي والدولي، ولطالما أثنته هذه الضغوط عن تقديم استقالته التي حاولها مراراً، ولكن...
من هذه الضغوط لعدم تقديم الاستقالة ما ورد في قول الرئيس عبد الفتاح السيسي له بشأن الوضع السوري (في صيف 2015) ومنها اختصاراً: تَوَقُّع السيسي بقرب سقوط النظام السوري على يد المعارضة، وأنّ أعداداً هائلة من النازحين السوريين ستتدفق إلى لبنان، حاسماً بالقول: «أنا أجهّز نفسي لسقوط سوريا وليبيا» (ص283). طبعاً ما حصل هو العكس مع وصول روسيا كقوة عسكرية وحضور سياسي إلى سوريا في أيلول (سبتمبر) 2015 وقد عملت على تغيير المعادلة، وتثبيت النظام.


قضايا بارزة انتقاها اللاز وسلّط الضوء عليها، كالتحديات الأمنية وخطف العسكريين في عرسال، وغيرها وإن لم يعطها الصورة الكاملة، كالتظاهرات التي قامت بها مجموعات مما يُسمى المجتمع المدني في 22 آب (أغسطس) 2015 بحجة أزمة النفايات. لكن في الكلام/ الرأي الوارد للرئيس سلام ما يفي بالتوضيح بإشارته إلى مجموعات المجتمع المدني التي تلقّى بعض نشطائها الأساسيين تدريبات لدى مؤسسات أميركية وأوروبية، من مؤسسة اسمها «متروبوليس»، ومنظمة «أوتبور» المرتبطة بمعهد السلام الأميركي، وتلك التي تسير على نهج الأميركي دين شارب... وهذا الموضوع أثاره الرئيس سلام مع السفير الأميركي يومها (ص213)، الأمر الذي يتناقض واستنتاج اللاز حول هدف المشاركين من خندق الغميق «المعروفة بأنها منطقة نفوذ حزب الله وأمل» (ص211). أمر يجرُّنا أيضاً إلى انتقاء ما قاله قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال لويد أوستن للرئيس سلام، مختصراً سياسة أميركا في الشرق الأوسط (في عهد أوباما) بأربع نقاط هي: مصالحها الحيوية، تدفق النفط، منع تهديد الأسلحة النووية والكيماوية، والحؤول دون تسرّب العناصر المتطرفة من سوريا واليمن إلى الولايات المتحدة وأوروبا (ص290)، ليكون كلام سلام أكثر وضوحاً في تقييمه للسياسة الأميركية بقوله: «لبنان مجرد تفصيل على خريطة الاهتمامات الأميركية في العالم، وموقعه يتقدّم في سلّم الأولويات أو يتراجع تِبعاً لتأثير الأحداث الجارية فيه على إسرائيل أولاً ثم على الأمن الإقليمي» (ص293).
تبدو سنتا رئاسة سلام للحكومة فترة الشغور في منصب رئاسة الجمهورية نموذجاً لتفلت العمل السياسي واستضعاف الدولة من داخلها ومن الخارج، وليس أدل من توصيف سلام لفترة حكومته «بأنها كانت فعلاً سباحة مضنية مع الكثير من أسماك القرش« (ص325)! أين الحيتان والتماسيح؟