تونس | العين نافذة للنفس ومرآة المشاعر. والعين دليل على الرقابة والرقيب، وهي من سمات الجمال أيضاً. وللعيون قصص لا تنتهي، تجمعها روابط كثيرة. وفي ثقافات وحضارات قديمة، هي رمز الشرّ أو الحسد، والعين كانت عماد الأعمال الفنية عند التشكيليّين ذات دلالات وجدانية ومعرفية متنوعة.دلالات جعلت التشكيليّة التونسية ريم سعد تستخدمها كشكل من أشكال التعبير. إذ راحت تلصقها على جدران المسارح ودور الثقافة وفي الأحياء الشعبية وفي كل مكان متاح. ريم سعد صاحبة مشروع «شمعدان للورشات المتنقلة لسنة 2020»، تجمع لوحاتها بين تراث الثقافة وتجدّدها، وبين الفسيفساء والألوان المائية والرسائل الفنية المختلفة. أما بالنسبة إلى المحامل، فتحمل سعد فرشاتها وتلصق العين في الشوارع، لتتجاوز حرّاس الفن الذين يضعون له حدوداً وأسواراً.

اختارت سعد الشوارع بدل المعارض المغلقة والنخبوية، ونفّذت أعمالها بأحجام وأشكال وألوان متنوعة. يرمز هذا التنوع إلى اختلافات مكوّنات المجتمع التونسي وإلى ضرورة قبول الآخر والتعايش معه، وعين الفنانة هي عين امرأة. وهنا نستحضر ما تحمله عين المرأة في الثقافة العربية، وكم تغنّى الشعراء بالحوراء وعيون المها والريم وغيره من الوصف.
تقول لنا ريم سعد «إن العيون التي تتراءى في مشهدية الشوارع والجدران، هي رمزية أيضاً لتأنيث المشهد العام والرأي العام والفضاء العام، وهي أيضاً بمثابة عقد جمالي بين الفنان ومحيطه الثقافي الاجتماعي الاقتصادي البيئي. وهنا يمكن أن نتحدّث أيضاً عن ثقافة المواطنة والمشاركة والديموقراطية والمبادرة، وثقافة القرب والأحياء والحرية، وثقافة تحيي الفضاء العام، إبداعاً وخيالاً وتعبيراً وفكراً وجمالاً في سياق من الالتزام والمعنى».
ظل وجه الإنسان عبر تاريخ الفن التشكيلي أهم ثيمات ومواضيع النحت والرسم، ويكون التركيز على العين بصفة خاصة، لأنّها أكثر تفاصيل الوجه قدرةً على التعبير. نستحضر هنا لوحات عالمية على غرار «الموناليزا» التي تسرق عيناها من يراها، أو لوحة «الصرخة» لإدوارد مونش الذي أسس نمطاً انسيابياً يقوم أساساً على المواضيع النفسية. كذلك هناك لوحة اقتحمت بيوتنا لسنين هي «الطفل الباكي» للفنان الإيطالي جيوفاني براغولين حيث تأخذنا عيون الطفل.
ترسم فسيفساء العين في الشوارع وعلى الجدران


والفسيفساء المائية هي شكل من أشكال التعبير، توغل في القدم، بدأت في لحظة تاريخية ترتبط ببداية الإنسان المبدع. لعل أول ما يمكن ذكره من أمثلة، تلك الفسيفساء التي كانت مميزة لبلاد الرافدين في معبد «أور» في الألف الثالث ما قبل الميلاد بأشكال زخرفية وفنية بديعة. ثم إن أشهر الفسيفساء تجسد مفاهيم مقتبسة عن الميثولوجيا القديمة واستخدام الرموز والإيحاءات وتصوير الشخصيات في أماكن العبادة أو غيره. أما في تونس، فتعتبر اللوحة المرجعية في الفسيفساء اللوحة الشهيرة «فسيفساء فرجيل».
وفي موازاة تجريدية بألوان الأكريليك، ترسم ريم سعد فسيفساء العين. وتتميز تقنية الألوان المائية بمنح الفنان ملكة استنطاق الشفافية وفق خصوصية الرؤية والفكرة المراد إيصالها وتعتمد سعد الضوء والظلال في توزيع الألوان، لتصبح العين اقتناصاً وبلورةً مشهدية جديدة صاغت تكوينها وتلوينها اعتماداً على التعبير عن رؤية جديدة تخلقها الأحجام والمحامل التي يتم إلصاقها عليها في كل مرة، فيبدو منظر العين مختلفاً عما هو عليه في الواقع. منذ انطلاقها في إلصاق عملها الفني، تعرّضت سعد للتضييق البيروقراطي والقمع الذي ما زال يلقي بظلاله على فن الشارع والممارسات الفنية عامة، إذ ما زال التوجه العام للدولة يحول دون خروجها من الأسوار والنظم والأطر الرسمية، تارة أسوار المعارض، وطوراً دور السينما والمسارح ومدينة الثقافة.
رغم أن الأعمال الفنية والألوان المستخدمة تضفي بهجة على المدن الكئيبة ككآبة العاصمة تونس والعواصم العربية عامة، تبقى على مستوى المضمون، لكل شخص قراءته الخاصة التي يرتئيها وترتبط بمجموعة من العوامل والخلفيات الثقافية والفنية. ويبدو أن جوهر الفن يكمن هنا تحديداً أي في تعدد القراءات والتأويلات. مع ذلك، فإنّ «عين» الفنانة ريم سعد لا تبدو هنا انعكاساً للواقع، بقدر ما هي واقع ذلك الانعكاس على حد تعبير ألان باديو.