كان آخر لقاءٍ لي مع سماح إدريس في المستشفى يوم ٢٧ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢١، وكانت تلك المرّة الوحيدة التي ألتقي به بعد معرفتي بمرضه قبل شهر. قبل لقائنا بيومين، تعرّض لنزيف داخلي كبير كاد أن يودي بحياته، واستدعى مكوثه في المستشفى إلى حين موعد زيارتي. وصلت إلى غرفته ووجدته مستلقياً على سريره وحوله ثلاثة من أصدقائه ورفاقه. كانوا جميعاً واقفين، ويلزمون مسافة عن بعضهم وعنه خشية نقل عدوى الكوفيد إليه، على ما استقرّت عليه العادات في المستشفيات وخارجها في السنتَين الماضيتَين. وكنّا جميعاً نلبس الكمّامات، باستثناء سماح. ولسبب ما، ربّما لأنّني أتيت متأخّراً بعدما كان الضيوف الآخرون انتهوا من أحاديثهم الخاصّة معه، اتّسم وقتنا المشترك في الغرفة بتبادل الأحاديث بيني وسماح بينما ينصت إلينا، بل يتفرّج علينا الآخرون، بلطفٍ ورحابة صدر غير عادية. وقد يكون السبب معرفتهم به الأقدم عهداً، وشدّة تأثّرهم بمشهد صديقهم الذي عرفوه منذ صباه، شاباً متحمّساً وخلوقاً، على الفراش يتألّم.لطالما وجدت في سماح صفات الشباب، مع أنّه يكبرني سناً بعشرين عاماً. هل الأمر مردّه إلى أنّه يحمل اسم أبيه؟ لا أعرف. لكن ما اكتسبته من معلومات ممّن عاشروه على مدى السنوات، جعلني أشعر أنّ سماح شخص استقر في دوره وأخلاقه وطبعه بشكل متلاحم مع أعماله منذ صباه، فلم يحتاج إلى أن «يشيخ» اجتماعياً منذ حينه، أن يكتسب دور الأكبر سناً، دوراً آخر. وقد يكون السبب أيضاً أن الموقف السياسي الذي اختاره سماح في المجتمع اللبناني، المعاكس بل المتصدّي لكلّ ما تُكافئه الثقافات المسيطرة، على الوقوف مع قلّة قليلة إلى جانب الفقراء الفلسطينيّين بعدما خسروا سندهم العسكري في النظام السياسي اللبناني، ومأسسة العمل العربي المشترك في وجه الكيان الصهيوني الاستعماري فيما تتلاشى الأسس المؤسّساتية للتعاضد العربي... هذا الموقف اقتضى من سماح أن يجعل من كلّ إطار عمل عائلة جديدة، يكون فيها الفتى الصالح، الكفوء، الذي يقوم بواجب الكتابة، والاتصالات، والاجتماعات، والذي يحمل الموضوع برمّته على ظهره.
ابتدأ حديثنا في المستشفى بموضوع قططه. سألته عن «قمر» و«سيما»، وأعلمني بشيء من الأسى أنه لم يعُد يستطيع أن يهتمّ بهما شخصيّاً، وأنّه أرسل «سيما» إلى زوجته السابقة وأنّ «قمر» بات عجوزاً ومريضاً جداً، يحتاج إلى عناية فائقة. وقد حرص على ترتيب غرفة كاملة في منزل شقيقته حيث يعيش القط وحيداً مع مرضه، ويمكنه أن يقضي حاجاته حيث تفرض ذاتها من دون موانع ولا إزعاجٍ لأحد، بعدما فقد قدرته على النظافة الغريزية والمعهودة عند القطط. أصرّ سماح على أن يعلمنا أنّه بالرغم من مرضه، قام بكلّ ما يجب لجعل حياة القطّتين هانئة، لا ينقصها شيء، وأردف: «أليس كذلك؟». سألته: «هل أن قمر في هذه المرحلة يُعاني وموجوع كثيراً؟». قال: «لا». وأردفت: «فإذاً أنت تقوم بكل ما تستطيع وما عليك سوى الاطمئنان». ثم أعلمني أنّ روايته الجديدة التي موضوعها القطّتان باتت قريبة من الانتهاء، وقد بقي له فصل واحد يكتبه. وكان سماح قد طلب مني مرة أن أرسم لأحد كتبه عن «قمر» لكن الرسوم التي اقترحتها عليه لم تعجبه. ثم ذكر لأول مرة بأنّ «قمر» يعاني من سرطان في المعدة. قلت له، بعبقريتي المعهودة: «لقد توقّعت ذلك، جميعهم يقضون بسبب ذاك المرض». فأضاف سماح، وكأنه التقط فرصةً مني لمصارحتنا، وقد شردت عيناه تطلب ملاقاة عيون كل من كانوا في الغرفة: «أتصدّقون؟ أراني في هذا القط، أرى أنّه يعيش مثلي، وحيداً مع مرضه». فيما عدا ذاك الموضوع، انتقل حديثنا إلى مواضيع سياسية تنظيمية واستمر فيها لمدة ساعة، حيث أبدى رفاق سماح بعض آرائهم، لكنني كنت أكثر الموجودين كلاماً، بينما سماح يناقشني بصراحته الحاسمة على ضوء تجربته الشخصية مع الأشخاص والفئات الاجتماعية التي تطرّقنا إليها. تلك التجربة التنظيمية التي امتزجت مع شخصية سماح، وجعلت علاقته بالسياسة، وربما أيضاً باللغة، علاقة تسعى إلى الوضوح قبل أي شيء آخر. لطالما أشعرني سماح، من خلال تعقيباته اللغوية المتنوعة على نصوصي، أنّ اللغة عنده أساسها أن «تصل» إلى القارىء. قد تبدو هذه الفكرة بديهية، ولكنها ليست بالفعل كذلك. فمن منّا لم يشعر في المستنقع اللبناني بأنّ غالب من يكتبون حقيقةً يتوسّلون اللّغة، إمّا لتوجيه صفعة لآخرين، أو إغراقهم في مجرور، أو لنيل مكانة معينة في صالون أو عند شلّة أصدقاء، وغيرها من الأبعاد التي من الأفضل التحفّظ عنها الآن؟
ماذا يعني أن تكون اللّغة واضحة عند سماح؟ ربما الترفّع عن صغائر الاستخدامات الشائعة للّغة، وهو الأمر السهل عند شخص مثل سماح، لأنه من الذين ورثوا حب جمال عبد الناصر. بالنسبة لمن اختبر أو فهم المرحلة الناصرية، السياسة العربية في مرحلة انحدار متواصل منذ خريف ١٩٧٠... هذه «المسافة» مع السياسة العربية المعاصرة، ليست بالقليل. منذ هذه النقطة، بات سماح وأمثاله يمتلكون سلاحاً نادراً في الحياة الاجتماعية اللبنانية يمكن للإنسان أن يرتكز إليه، أن يختلي به، ليعود إلى التفاعل الاجتماعي منتعشاً، صلباً، لا يحيد عن أفكاره. من هنا مثلاً كان تغنّيه مازحاً بما يسمى باللغة «الخشبية».
في ختام حديثنا، كان لسماح آراء من نوع لم أعهده عنده، ربما لقلة معرفتي الشخصية به، وربما أيضاً لأن الحياة لا تقدّم مناسبات تجلّي الأهواء كلّها. كان معتزّاً بابنتيه، إحداهما تتدرّب في الطب النفسي العيادي في «جامعة هارفرد»، والأخرى تدرس «الشرق الأوسط» في «جامعة كولومبيا»، وتميل إلى التعمّق في تجربة مناضلين للقضية الفلسطينية ما زالوا أحياء، من «آخر حاملي التراث»، بحسب كلمات سماح. قالها ليشدّد على أهمية تطلّعات ابنته، وبدا لثوانٍ هنا كأنّه أخذ دور الشيخ، مثل كثيرين من آبائنا الفخورين. وكلمة التراث باتت شبه غائبة في المعجم العام لأسباب عديدة ليس أقلّها التحقير الذي تعرّضت له والعبث الطاغي على مجمل المشاريع الثقافية المموّلة. لكنني، بعد تفكير، وجدت مجدداً فيها سماح الفتي، الذي حمل ثقل إرث والديه الثقافي، فتمسّك بكلمات وموضوعات زمانهما (هي أيضاً موضوع رسالة كتبها عن رئيف خوري، لم أقرأها). المفارقة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢١ في بيروت، أنّ الحمل هذا، بات بتلمّس من الكثيرين، حملنا المعاصر جميعاً. لقد تفتّتت الساحة الثقافية في موازاة تفتّت الوطن العربي، ومع وفاة سماح، ها هي تفقد أحد أوجه «تنوّعها» وتزداد تصحّراً في بيروت. اختفت أغلب الصحف، وهي لم تكن كافية أصلاً، وبات أرشيفها من امتيازات أقليّة من موظفي الجامعة الأميركية الذين لا يجيدون قراءتها. من هذه الناحية، تميّز سماح أيضاً عن غيره بإهداء أرشيف مجلّة «الآداب» كاملاً إلى الجمهور العربي. قضيّة التراث هي ذاك السؤال الملحّ عمّا سنفعله عندما تختفي كلّ معالم العالم الماضي ونغرق نهائياً في العتمة. سماح، الواضح، الصريح والأصيل، كان من النادرين الذين قابلتهم ممّن يُمكن أن أتحدّث معهم فيه، ولو على فراش المستشفى.