منذ عرفته كطالب في جامعة «كولومبيا» في مدينة نيويورك، قبل ما يُقارب أربعة عقود، كان سماح دوماً ولا يزال منارةَ أملٍ وفكرٍ ونضالٍ ثوريّ لا يعرف الكلل، وصاحبَ ابتسامةٍ سهلة، مُطَمْئِنة حتى في أحلك الأوقات. عندما كنا نعمل سويّاً، مع زملاء آخرين، على تنظيم نشاط في الجامعة دعماً لفلسطين ونواجه حملات التشويه والشيطنة والقمع من العدد الكبير من المنظمات الصهيونية في الجامعة وداعميها في إدارة الجامعة، كنا نغضب ونيأس حيناً ولكن دوماً نُصِرّ ـــ بما أسماه سماح لاحقاً «التيْسَنة الثورية» ـــ على المُضِيّ قُدُماً رغم كل شيء في تنظيم النشاط. ورغم قلة عددنا وتكالب الأعداء علينا، نجحنا في خلق حالة توعوية مميزة شكّلت نواةً لنضال طلابي متصّل لاحقاً.

عدا مساهمته المعهودة فكرياً وعملياً في هذه السيرورة، كانت روح سماح المتسامحة والمَرِحة تُعطي عملنا دفئاً ونكهة خاصة، بالذات حين كان يكرّر في كل مناسبة، وأحياناً بدون مناسبة، هجاءه للنَكَد الفلسطيني، منهياً جملته بـ «يا لطيف!»
لكن سماح لم يكن يوماً يسوعَ المسيح أو الأم تيريزا، لا تسيئوا فهمي. فإن كان متسامحاً داخل «معسكر الأصدقاء»، فهو بعكس اسمِه، لم يكن متسامحاً أبداً مع من اقتنع بأنهم/ن باعوا مبادئهم للسُّلطة، أي سُلطة، أو انغمسوا بغلاف نيوليبرالي في التطبيع مع إسرائيل، التي لم يكن ليقبل بوجودِها حتى في كتاباتِه سوى بين مزدوجَيْن، كالمارّة بين الكلمات العابرة، كما قال درويش يوماً. المبدأ بالنسبة إلى سماح، يأتي أولاً وعاشراً، يرفض الميوعة في الموقف بالذات حين يقتضي الأمر الحسم. وغالباً ما يرى سماح أنّ الأمور تقتضي حسماً مماثلاً. لكنّه بقدرته على التطوّر والارتقاء بذاته فكراً ونضالاً، ومع خبرة سنين من العمل الميداني في معترك الثقافة والمجتمع والسياسة، طوّر سماح إدراكه للمساحة الرمادية الواسعة بين الصديق والعدوّ، وازداد تقديرُه لضرورة التحالف التكتيكي مع من اقترب من الحق والعدالة، من منظوره، لجذبه أكثر نحوهما، ولو لم يكن «نقيّاً» بعد، حسب تقويمه.
عادة ما أتفق مع سماح على المبادئ والأهداف، أو جلّها، وأختلف على الاستراتيجية للوصول إلى الهدف. لكن كلما أختلف معه حول حملة أو فكرة ما، وكونه يعتبرني من معسكر الأصدقاء، بالمفهوم السياسي، لا الشخصي فحسب، يتمسك سماح بموقفه من منطلق أنه الأصح والأدق في السياق العربي برأيه (وغالباً ما يكون ذلك صحيحاً)، لكنه يقبل بتغيير موقفه قليلاً تماشياً مع متطلبات «العمل الدولي»، الذي كان يثق بخبرتي الأعمق فيه. وعندما أستشيره حول قضية ما تتعلق بالوضع العربي تحديداً، وأنا مِمّن اغتنوا فكرياً بقراءة مفهوم «العروبة الجديدة»، غير الإقصائية، وغيره من المفاهيم التي أسهم سماح في تطويرها، كان كَرَمُه الفكري حاتمياً.
ومن أجمل مزايا سماح التي أقدّرها بعمق أخلاقه، فهو يرفض إغراءَ المال الملوَّث بدم المضطهدين ومعاناتهم، مهما تفاقمت حاجة مجلة «الآداب» للمال. وكلما جُوبِه بتيّار التطبيع الجارف ومقولات مثقّفيه «البديهية» حول جنون السباحة عكس التيّار، ردّ عليهم بإصراره على أن يكون هو تياراً جديداً أو من ضمن تيّار جديد. أعتقد أن رفض سماح لا للسباحة مع التيار فحسب، بل للتيار ككلّ يحظى باحترام كل أصدقائه وجزء غير بسيط ممن اشتبكوا معه ـــ بالمفهوم التناحري! ــــ ودخلوا في سجالات حامية معه. رغم غربته لسنين خلال الدراسة ومخالطته للفلسطينيين أكثر بكثير من اللبنانيين في حينه، ظلت لهجة سماح البيروتية لا تقبل التخفيف، تماماً كمبادئه التي تشكّل جزءاً عضوياً منه، كالعينين، يرى من خلالها العالم واعوجاجه ومصادر الأمل والثورة فيه.
إن كان أثر الفراشة لا يزول ولكن لا يُرَى، فأثرُ سماح إدريس الثوريّ أيضاً لا يزول ولكنه يُرَى ويُلهِم ويسهِم في تحرير العقل والأرض.
لسماح التحية النضالية والقصيدة الثورية والكرامة السرمدية.

* صديق وفي لسماح إدريس وعضو مؤسس لـ«حركة مقاطعة إسرائيل BDS»