في المدة التي استغرقها إنجاز فيلم «فدائيين ـــــ كفاح جورج عبدالله»، كان عالم الاجتماع الجزائري سعيد بوعمامة قد أنجز كتاباً باللغة الفرنسية بعنوان «قضية جورج عبدالله» (1). صدر الكتاب في شباط (فبراير) الماضي، لكن ظروف جائحة كوفيد-19 حالت دون أن ينال حقه في النشر والتداول في لبنان، على رغم أن الكتاب لا يقل شأناً عن الفيلم لناحية الغوص في الأبعاد الاجتماعية والسياسية والفكرية لقصة الأسير المقاوم جورج عبدالله وقضيته.لعلّ الإعلان عن عرض الفيلم على مدى أيام الأسبوع يمثل فرصة سانحة لإلقاء الضوء على بعض مضامين الكتاب، وفي الوقت نفسه يكون مساهمة نوعية إلى جانب الفيلم لكشف سمات وأبعاد أخرى في قضية الأسير جورج عبدالله من زاوية سوسيولوجية، يغلب عليها طابع سوسيولوجيا المقاومة، في منهجية دراسة الحالة، محورها جورج عبدالله وإطارها السياسات الإمبريالية المعادية لشعوبها أولاً، ولشعوب العالم قاطبة أيضاً. وفي دراسة الحالة هذه، يعتمد الكاتب أسلوب تحليل الخطاب، ممثلاً بما أعلنه الأسير في مرافعته أمام المحكمة، التي أرادها محاكمة للنظام الرأسمالي عموماً، ولعدالته المزعومة، إضافة إلى الرسائل التي كان يوجهها الأسير للمتضامنين معه، والتي بدورها أيضاً، كانت بمثابة خطاب مواجهة مع قوى العدوان الرأسمالي، سواء بسعي الأخيرة لقتل فكرة المقاومة لدى الأسرى بحد ذاتهم، أو لتدمير موقعهم الرمزي في نظر الشعوب المضطهدة. من خلال المراحل التي مرت بها قضية جورج عبدالله، منذ اعتقاله، مروراً بالخزعبلات القانونية الآيلة إلى إصدار أحكام سياسية تتضمن كافة أشكال التلاعب بالقانون، وانتهاء بالإعلان الرسمي عن كون «القانون» في الدول الرأسمالية مجرد أداة لقهر الشعوب وطمس حقها في الدفاع عن نفسها، من خلال مراحل القضية ومسارها «القضائي»، يكشف بوعمامة آليات الهيمنة الرأسمالية بوصفها نظاماً متكاملاً، تندرج في سياقه الأجهزة الإعلامية والقضائية والعسكرية لتكون آلة لنهب الشعوب وقهرها.
يحوي الكتاب مقدمة وستة فصول وخاتمة. يستهل عالم الاجتماع كتابه باعتبار قضية جورج عبدالله، بسبب هذا الكمّ من تدخل الدولة الفرنسية، أداة كاشفة «لحالة العدالة الفرنسية عندما يتعلق الأمر بفلسطين والشرق الأوسط والسياسة الدولية الفرنسية والإمبريالية».
في الفصل الأول، يصف تبلور هوية جورج عبدالله وتشكل وعيه السياسي في سياق ما شهدته سبعينيات القرن الماضي من اشتداد للصراع الطبقي في لبنان وانتقال قوى الثورة الفلسطينية إلى لبنان، ليصبح مكان التقاء مشاريع وطنية وتحررية اكتسبت تعاطفاً أممياً، في مواجهة اعتداءات إسرائيلية تدعمها القوى الإمبريالية. أمر ولّد على المستوى الفلسطيني ثم اللبناني شعار «وراء العدو في كل مكان»، وكان جورج عبدالله إحدى الحالات المجسدة له، إلى أن جرى اعتقاله عام 1984، لتبدأ ــ كما وصفها الكاتب في الفصل الثاني ـ «مسرحية سياسية قضائية طويلة، كل منها يشكل: فضيحة دولة».
إسرائيل تخدم مصالح جميع القوى الإمبريالية


واستعرض الكاتب في الفصل الثالث «مقاتل في مواجهة قضاته» جانبين يتمسك بهما كبار المناضلين أثناء محاكماتهم: أولهما، المناضل لا يدافع عن نفسه إنما يدافع عن القضية، وثانيهما بالتالي، انتقاله من موقع المتّهَم إلى موقع المتّهِم. وهكذا، راح جورج عبدالله يعدد الاعتداءات والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل في لبنان وفلسطين، إضافة إلى ضحايا الاستعمار على مرّ التاريخ القديم والحديث، لينهي باستهجانه حضور ممثل عن الولايات المتحدة الأميركية بوصفه طرفاً في الادعاء. إذ قال وهو يهم بمغادرة قاعة المحكمة: «أترك لكم لذة الاستماع إلى ممثلي اليانكي وهو يلقي حممه بوجه الشعوب المستضعفة».
أما الفصلان الرابع والخامس، فقد خصصهما لرصد العلاقة الجدلية بين استمرار شراسة الاعتقال وضعف التحركات المطالبة بتحريره، تمهيداً للفصل السادس والأخير الذي تمّ تخصيصه للفكر السياسي لجورج عبدالله.
في تحليله لخطاب الأسير جورج عبدالله، سعى الكاتب إلى إبراز المعنى السياسي لاتجاه الخطاب على حساب القيمة الرمزية لصلابته وشدة صموده، ليس للتقليل من شأنها، إنما لأجل وضعها في سياق كشف مبررات التعنت الفرنسي من جهة، ولقطع الطريق على تأثير فكر جورج السياسي من ناحية أخرى، بالنظر لما يحمل فكره من إمكانات راهنة في ظل الأزمة الرأسمالية العاصفة ببلدان الغرب الرأسمالي وتقاطعها مع انتقال الإمبريالية إلى ممارسة أسلوب جديد في التوحش الرأسمالي في دول الأطراف.
إنها عملية التكوّن الفاشية Processus de Fachization، ذلك المصطلح الذي استخدمه جورج عبدالله لتوضيح آليات اشتغال الإمبريالية في بلدان المركز الرأسمالية وفي الأطراف. آليات يجري التعبير عنها من خلال ابتداع «قوانين» جديدة تجرّم معاداة الصهيونية، وتنقلب على حقوق تشكيل النقابات والتظاهر، وممارسة العنف ضد المتظاهرين في المجتمعات الغربية، وبالمقابل تشريع ما يسمى الحرب الوقائية والتدخل العسكري بحجة الدوافع الإنسانية وفرض العقوبات على كيانات ودول.
وربطاً بتحليله لآليات وسيرورة تكوّن الفاشية، يشرح جورج عبدالله تطور السياسات المعتمدة تجاه السجناء. فلم يعد الأمر يتعلق بسجناء سياسيين يقضون مدة عقوبتهم، إنما بات الهدف القضاء عليهم. ويشير إلى القانون الصادر عام 2008 الذي يمنح السلطات القضائية حق تمديد عقوبة السجن إلى ما لا نهاية انطلاقاً من معيار «خطورة» السجين وليس من منظار مسؤوليته عن الأفعال التي قام بها.
هكذا، تكمن خطورة الفكر السياسي لجورج عبدالله، بتجسيده فكرة المقاومة ضد إسرائيل، ليس لأن الأخيرة تعبّر عن مصالح طبقتها الحاكمة فحسب، إنما لأنها تخدم مصالح وأهداف جميع القوى الإمبريالية، ولأن حرية الشعب الفلسطيني لا تنفصل عن حرية الشعوب العربية وشعوب العالم قاطبة.
* أخ المناضل اللبناني
(1): Saïd Bouamama, l’Affaire Georges Ibrahim Abdallah, Premiers Matins de Novembre Éditions, 2021.