ترجمة: أحمد شافعي
يحكي وولي سوينكا في روايته الجديدة قصّة متعدّدة الأبعاد عن جمعية سريّة تتعامل في الأعضاء البشرية لأغراض قربانية، وتضم بين أعضائها بعضاً من أرفع الشخصيات السياسية والدينية في البلد. وتعرض بالتفصيل كيف تؤثّر هذه المؤامرة وهذا الكيان شبه التنظيمي السرّي لا على حياة الأمة وحدها، بل ولمزيد من التحديد، على حياة أربعة أصدقاء. فهذا الكتاب في جوهره بلاغ. وهو رواية تفجّر ابتزازاً إجرامياً قاتلاً منحطّاً يجري في بلد أفريقي يحمل شبهاً غير مريح بنيجيريا. وهذا الكتاب أيضاً لعب عاصف مفعم بالحياة، داخل أفق سياسي ضاجٍّ بالفساد والانتهازية وأفق روحاني غاصّ بالزيف، وغاصّ، لمزيد من الإزعاج، في القتل بموافقة الدولة. وهذه في النهاية رواية فنان في عجزه. تتجاوز الملهاة. فهي رقصة موت هائلة. وهي عمل فنان عثر أخيراً على الزمان والمكان اللّازمين لإطلاق العنان لحكاية عن كل ما هو منتن في نيجيريا. فما لأحد آخر أن يكتب كتاباً كهذا ويفلت به حيّاً ونشطاً في قلب هذه الأهوال المفضوحة. ولكن ما لأحد مثل مكانة سوينكا الفريدة في الحياة السياسية والثقافية في بلده.

تستهلّ رواية «سجلات من أرض أسعد شعوب الدنيا» بجملة تقول: «كانا بابا دافينا يفضل أن يصوغ بنفسه كلمات الحكمة. ومن ذلك، على سبيل المثال، قوله الشهير إن «المنظور هو كل شيء»، فينبّهنا ذلك منذ البداية إلى أننا بحاجة إلى مسافة جمالية لنفهم مغزى الانعطافات والالتواءات، والهندسة الباروكية، والبنية المثيرة والنبرة المناقضة بغزارتها في هذه الرواية الغريبة.


بابا دافينا معلم ديني لديه رسالة روحانية ملائمة لجميع الأغراض تدعى الإكومينيكا، وهي واجهة متقنة لممارسات شديدة الدناءة والبشاعة، فيأبى العقل أن يستوعبها حتى حينما يعلم طبائعها. وهو شريك لرئيس الدولة، الماكر البرغماتي، السير جودّي، ويبدو أن هذه العصبة، أو هذه الجمعية السرية، تشمل بنية السلطة كاملة في البلد. فهل هذه استعارة لطبيعة الفساد والكذب المتطرفة التي تمتص الحياة من هذه الأمة المالكة لأسباب العظمة، أم أن الاستعارة في هذه الحالة هي الواقع نفسه؟ لو صدق الظن الأخير، فالكاتب إذن يتعامل مع إحدى أكثر مشكلات الأدب وجودية، وهي كيفية تعامل كاتب مع ما لا يمكن أن يُقال من خلال وسيط لا بد للأشياء فيه أن تُقال ولا بدّ لقصّة أن تُحكى. كيف لامرئ أن يحكي قصة ما لا يمكن أن يُقال؟
سوينكا واحد من أكثر كتاب أفريقيا تمثيلاً. هو شاعر ومسرحي وكاتب مقال وسيرة وناشط وروائي، تعرّض للسجن في الستينيّات لجهره بإدانة الحرب الأهلية النيجيرية، وكان أول أفريقي يحصل على «نوبل» في الأدب سنة 1986. وهو من أشدّ منتقدي الدكتاتورية والحكم الرديء في نيجيريا. وهذه الرواية ثمرة تلك التجربة كلها. وهي الأولى له منذ 48 سنة والثالثة بين أعماله. روايته الأولى (المترجمون/ المفسِّرون The Interpreters) تناولت قصة جيل من الأصدقاء يمثّل كل منهم إلهاً أو آلهة من بانثيون آلهة اليوربا. وروايته الثانية «موسم التشريح» كانت رده الأدبي الشعري على الحرب الأهلية النيجيرية. وفي السنوات الفاصلة بين الروايتين، كتب ما يزيد على عشرين مسرحية، وقصائد، وسير، ومجادلات فضلاً عن كتابته قنابل يدوية أدبية في أشكال متعددة. والظاهر أنه كان لا بد من عزلة الحظر القسرية لإرغامه على أن يكتب أخيراً الرواية التي ظل يحملها بداخله ردحاً من الزمن.
إنّها أعظم روايات سوينكا الذي ينتقم من جنون الطبقة الحاكمة في بلده


في القلب من هذه الرواية، حكاية رُباعي من الأصدقاء يشكّلون في ما بينهم أخويّة وكيف يُحافظون على نزاهتهم وسط تجاذبات دوامة الحياة السياسية المحيطة بهم. وهي صورة، بالمعنى الدقيق للكلمة، لجيل تخونه المنظومة القيميّة المنحطّة السائدة ويخونها.
ثمّة أمر لا بد من إيضاحه منذ البداية، هو أنه إزاء كتّاب محدّدين ذوي أصوات شديدة التفرّد، وزوايا في النظر شديدة التطور، لا تملك ما تفعله بشأن أساليبهم. فهذه الأساليب تكون ثمرة محتومة لطريقة رؤيتهم للعالم. شأن هنري جيمس، وشأن كونراد، وشأن نابوكوف، لا خيار أمامك إلا أن تألف الأسلوب، وتتشرّبه. لكنك لا تكاد تفسح نفسك لتلك النبرة حتى يحدث شيء رائع نتيجته أن تستهل رحلة مفعمة بالحيوية.
هو أداء رفيع المستوى مستمر لأكثر من أربعمئة صفحة من قراءة غير مريحة تدفع إلى القنوط، لكنه أداء دائم الارتقاء بفعل حس دعابة قوي وعزوف صادق من الكاتب الساخر عن أخذ ادعاءات السلطة مأخذ الجد وإن كانت ذات تأثير قاتل.
ثمة الكثير الذي تجب ملاحظته في هذه الرواية البركانية، وبخاصة انتقادها الوحشي لأمة تتعرض لسقوط أخلاقي حرّ. والعجيب هو كيف استطاع سوينكا أن يصوغ حكاية قادرة على حمل ثقل كل تلك الفوضى، فضلاً عن إضافات جانبية تتمثّل في جدالات سمح بوجودها الأسلوب مفرط النضج، كثير العيوب، متفرّع الحكي وإن جعل بهاء إنجازه تلك المآخذ جميعاً غير ذات قيمة.
فلو أن لدى أحداً الرغبة في أن يعرف أي رواية قد يكتبها شخص اقترب واطّلع ونجا من ذلك، محافظاً على ضميره الفني وقدراته الإبداعية حيّة في بلد صعب، فإن الـ«سجلات» تُجيب عن هذا السؤال. فهي أعظم روايات سوينكا، وهي انتقامه من جنون الطبقة الحاكمة في بلده ومن أكثر السجلات التاريخية إذهالاً في بلد أفريقي في القرن الحادي والعشرين، وإنها لجديرة بالقراءة على نطاق واسع.

* نشر المقال في «غارديان» في أيلول (سبتمبر) 2021