في «جثّة متنقّلة»، يُحافظ المخرج ومؤسّس «مسرح شغل بيت» شادي الهبر، على الأُطر الكلاسيكية، من حيث الصيغة والأشكال المسرحية. تتراءى الدراماتورجيا بشكل واضح لا يستدعي كثيراً من التفكيك والتحليل. لعبة إخراجية تقوم على الطقوس والميثولوجيا، ونص سردي ذات حبكة متقنة. في هذا العرض الذي ينطلق اليوم في «مسرح المدينة»، يطرّز الكاتب اللبناني ديمتري ملكي، حبكة عمره، وخياله الجامح، برقّة وشاعرية. المسرحية تسرد حبكة رجل، توفي في التاسعة عشر من عمره. لكن جثته ترفض مغادرة الأرض. في مناخ يجمع الخيال بالواقع، تصبح جثته مشهورة، وتغوص في مغامرات غير متوقّعة. حتى إنّ هذه الجثة أو الشخصية الميتة، تلتقي بنصفها الثاني، وببطلة أحلامها أيضاً. يتمحور السؤال في هذا العرض حول احتمال مغادرة الجثة لهذا العالم، سعيدة مطمئنة. في سياق النص المسرحي، تستوقفك الجمل. «يا ريت كان فيي اختفي بالضباب، بنقط الهواء». تضعك هذه المحسنات اللفظية، في دائرة من السكون. ترانيم أقرب إلى جمل موسيقية. سجع، يهطل على مسامع المتفرج، ليُخيّل أمامه الزهو، والصفاء، الذي يصوره الممثل على المسرح. لكن، لا يقف النص عند هذا الحد، ولو وقف عند التصويرات الشاعرية لكان مبتذلاً لا يثير الفكر. بل، يكسر من خلال النص، التابوهات والمحرمات الاجتماعية والإنسانية. النص جريء، يغوص في معاناة النفس البشرية، وما يرافقها من أفكار، كالاغتراب الإنساني، والجندرية، وصراع البقاء. كذلك تحمل هذه المعاناة الإنسانية في فروعها، معاني البحث عن الحب، والأحلام، والمتعة.
يعود ديمتري ملكي في نصّه، بالزمن إلى الوراء، إلى ذاك الشاب العشريني، الذي دخل «معهد الفنون الجميلة» (قسم المسرح)، وما رافقه من خيبات ولّدت في نهاية المطاف، شخصية متنزهة عن الكون وما فيه، تسعى للدخول في عالم ملائكي، بعيد عن البشرية جمعاء. كيف يمكن للمجتمع أن يكون قاسياً إلى هذا الحد، ويعمل على تحطيم الشخصية الداخلية لأي فنان؟ يستحضرك هذا السؤال لدى مشاهدة «جثة متنقلة». عنصر التماهي مع الشخصية البطلة، يبلغ ذروته في هذا العرض. للحظة تتحسر كمشاهد على ذلك الشاب الذي تحطّمت طموحاته على أعتاب المسرح وما يختزله. يذهب ديمتري ملكي، إلى إعادة محاكاة خيالات الطفل القابع في زوايا المنزل وحيداً، يحلم باللّعب بالدمية، بدون قيد أو شرط، أو حكم مسبق. قد تكون فانتازيا الذكور الذين يهتمون بالدمى الأميرات. ترافق الأميرة النائمة، الممثل على المسرح، وتظهر له على هيئة صديق مخلص، بعد سنين قضاها برفقتها، مهتماً بلباسها، وألوان أزيائها البنفسجية. سيدة المسرح، والأميرة النائمة، شخصيتان تُفرد لهما مساحة كبيرة في مونودراما العرض، التي يؤديها ديمتري بنفسه. يرافقه الممثل الشاب شادي غازي، الذي يتمتع بحضور محبب ولطيف في أداء الشخصية الثانوية، ويلملم شتات السينوغرافيا، ويحرّك الجثة المتنقلة في أرجاء المسرح، حتى تغيب ميتافزيقيا جسد الممثل البطل، وتخيّم لحظات السكون والموت بين المشَاهد، حتى يشعر المتفرج بثقلها.
يُحافظ المخرج شادي الهبر، على الأُطر الكلاسيكية من حيث الصيغة والأشكال المسرحية


لماذا تصوير الذات على أنها جثة؟ ألهذا الحدّ يصل الإنسان إلى جعل نفسه ميتاً، جثة متنقلة، تثير استغراب النفس؟ أي شخصية هذه جسدها المخرج والكاتب، وجعلاها ميتة؟ يقول ديمتري تعليقاً على ذلك، «لقد كنت ميتاً طوال السنوات التي خلت». الشخصية التي يصورها العرض، مليئة بالانكسارات، والأوجاع، تحمل اختلافاً في داخلها. على صعيد آخر، لا يغفل النص توجيه النقد لبعض مظاهر الحياة الاجتماعية الفارهة، للدعاية والإعلان والبروباغندا، واستغلال الأجساد في سبيل تحقيق الربح المادي والاستهلاكي.
على صعيد البناء الخارجي للمسرحية، يحب شادي الهبر كعادته تكريس الطقوس في مسرحياته. اللون البنفسجي يشير إلى الموت، الذي يرافق عادةً سينوغرافيا أعماله المسرحية، إضافةً إلى أزياء تشبه لباس الرهبان والكهنة. شموع، وأخشاب تذكّرنا بالمعابد. إنه الرجوع إلى ميثولوجيا الشخصية. يستفيض المخرج في إظهار كل هذه الطقوس لنقد المحيط، الذي كان قاسياً ومجحفاً بحق شخصية النص. قد تظهر هكذا الأمور للمتفرج، وإن لم يكن القصد ذلك. يظهر ديمتري، الذي لم يلعب دوراً مسرحياً منذ أيام دراسته، أي منذ حوالي ثلاثين عاماً، مستوى جيداً في التمثيل، على مستوى التقنيات الأساسية للممثل المسرحي، من كيفية استخدام الصوت وتحريك الجسد، وإن كان الأداء التمثيلي نمطيّاً أحياناً. خلال سياق العرض، تتكشّف دوافع الشخصية، ومكنونات الممثل الحقيقية، ليظهر أنَّ الأداء المسرحي للممثل، يتماشى مع الشخصية المسرحية، مما يجعلها عضوية وصادقة. النص، الذي يحمل كثيراً من الشاعرية، ويكسر الأخلاقيات المزمعة مجتمعيّاً، ينقصه إعادة ترميم على المستوى الموسيقي، بحيث تكون الموسيقى مشبعة بالعواطف التي تحملها الشخصية. إذ تبدو موسيقى الأوبرا الإيطالية دخيلة على العرض.
قد لا ينجذب المشاهد في بداية «جثة متنقلة» للعرض. لكن المخيلة الغزيرة، وفكاهة الممثل، وسرعة الأحداث، سرعان ما تستجلبك ناحيتها، وتنبه ذاتك إلى الكثير من الآلام الموجودة على الأرض. لقد نجح المخرج شادي الهبر، في بث الروح داخل ممثل، وكاتب مسرحي، محطّم، ومتهالك، ومثقل بالأحزان والخيبات.

«جثة متنقلة»: 20:30 مساء اليوم و٢٢ و٢٣ تشرين الأول (أكتوبر) ــ «مسرح المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/753010