في ليلة من ليالي عام 1957، أدى حادث سيارة فظيع إلى إصابة إمرأة بتسريحة فرنسية بجروح بالغة في الرأس بعدما كانت تقود السيارة وهي ثملة. عقب نجاتها من الحادث، نظرت صاحبة الشعر القصير إلى أصدقائها في المستشفى، وقالت: «تسألون عن سبب الحادث؟ إنه حبي الجنوني للحياة!». نعم إنها فرنسواز ساغان (1935 ـــ 2004)، المتوحشة الصغيرة الفاتنة، بذكائها وتلاعبها بالكلمات: «أنا وحش يتحسّس على وحش آخر في داخله» باندفاعها للحياة الذي منعها من العيش يوماً واحداً بمستويات منخفضة من الأدرينالين.بعد معجزتها الأولى «صباح الخير أيها الحزن» (1954)، أطلقت فرنسواز كواريز شهرة «ساغان» على نفسها. ففي الثامنة عشر من عمرها، وبعدما رسبت مدللة العائلة البرجوازية في امتحانات البكالوريا، أغلقت باب غرفتها على نفسها ولم تخرج إلا بعد سبعة أسابيع وفي يدها مخطوط «صباح الخير أيها الحزن». في هذه الرواية، روت سيسيل، المراهقة التي تنضح بالذكاء مغامرات عاشتها على الساحل اللازوردي الفرنسي في عطلة صيف تؤدي إلى كارثة مأساوية. كانت الرواية صارخة، جرأة لم ير مثيلها في تناول تابوهات عرفية وثقافية، وإثارة أسئلة كان من البديهي تحريمها في فرنسا يومذاك، حتى خرجت شابة (لم تصل إلى العشرين) لتصور بتحرّر بالغ حق المرأة في أن تفعل بجسدها ما تريد، من دون أن يكون هناك غاية «نبيلة» وراء رغبات بطلتها، هذا كله كان في قالب شعبوي، سهل القراءة، وصل إلى الجمهور بسرعة، ورمى في وجه ساغان اتهامات بتشويه سمعة الفتاة الفرنسية خصوصاً من قبل الكنيسة التي حاربتها وطالبت بانتزاع «سمّها» من عقول الشباب.
لم تتحرك شخصيات ساغان في هوامش مكانية واسعة، لكنها كانت تركز دوماً على العوالم الداخلية للشخصيات، فتنقل صراعات الأبطال وأسئلتهم وآراءهم الصريحة بمن حولهم، خصوصاً سيسيل، بطلة «صباح الخير أيها الحزن»، ابنة السادسة عشر التي كانت تسأل باستمرار عن معايير تحديد المسموحات والممنوعات، وكانت تميل إلى رجال أكبر منها سناً. يشعر القارئ بعد معرفته لساغان، أن سيسيل ليست سوى نسخة عنها، وبالطريقة ذاتها التي تجعل ساغان الشخص يحبّها رغم فوضاها الغائرة، تجعله يحبّ سيسيل رغم أفكارها الكارثية. كانت سيسيل وجهاً لم يقدم عن الفتاة الفرنسية، وجهاً غير نمطي، متمرداً، وربما دعوة إليه، وكان هذا في وقتها مرعباً.
لم تكتب ساغان روايتها الأولى بشكل إعتباطي. كانت ترغب في ذلك منذ وقت طويل على عكس ما يشاع، فالتقنيات الإبداعية التي استخدمتها في «صباح الخير أيها الحزن» خير دليل على ذلك. كانت موهوبة وموجهة من مُرشد ممتاز: جان بول سارتر، أب الفلسفة الوجودية لعب دوراً كبيراً في إنضاج وعيها كما شخصيتها الأدبية، فقالت عنه في رسالة حب إليه نشرتها في إحدى المجلات الفرنسية بأنه الأقرب إلى قلبها. حب ساغان وشغفها وملاحظات سارتر جعلتها تبدع في روايتها الأولى التي أرسلتها إلى دار «جوليار» تحت اسم «ساغان»، الذي اهتدت إليه بعد رؤيتها مدينةً على خارطة المانيا تحمل الإسم نفسه، فجعلته اسمها الأدبي وعلامة حظها التي انتقلت معها من مجرد فتاة تكره الدراسة الأكاديمية وتهرب من الصف إلى ظاهرة أدبية فريدة من نوعها في فرنسا قال عنها النقاد «نحن أمام ولادة معجزة أدبية».
إحدى المزايا التي تمتعت بها ساغان أنها نجحت منذ المحاولة الأولى. فالموهبة الكبيرة وفّرت عليها أن تتكلف عبء المحاولات التي يتكلفها الكتاب المبتدئون عادة. دفعة واحدة، ومن دون أن تعيد كتابة المسودات، هكذا صعدت ساغان القمة، تحمل عملها الأول الذي حاز إعجاب بيئة ثقافية كانت توصف بأنها «أبوية». والمفارقة أنها لم ترد شيئاً، كان الجميع يراها أسطورية، فيما كانت تنظر إلى نفسها على أنها فتاة عادية، تكره الطبخ وتحب ركوب السيارات. وهكذا بالضبط، عادت الفتاة التي كانت تكره الطبخ بعد فوزها بالجائزة الأولى عن روايتها، تحمل مبلغ مئة ألف فرنك فرنسي نقداً ( لأنها لم تكن تمتلك حساباً في البنك) بعدما نالت استحسان موريس بلانشو أكبر ناقد أدبي في القرن العشرين، وجورج باتاي أحد أكبر المفكرين والكتاب أيضاً، وروجيه كايوا.
لا يتذكر عادة مع إسم ساغان إلا اسم الرواية الأولى، لكن هذه الرواية لم تكن أكثر روعة من أعمالها التي تلتها منها: «ابتسامة ما»، «في شهر، في سنة»، «هل تحبون برامز»، «الفيوم الرائعة»... كيف تحولت ساغان من فتاة عادية إلى نجمة كسرت صورة الفتاة الفرنسية النمطية وصورة الكاتبة المتزنة التي تحمل في يدها القلم؟ فعلتها، بحياتها التي كانت فيها أقرب إلى «السوبر ستار» الذي يلاحقه الصحافيون من الكاتب الانطوائي، وبصداقاتها الوطيدة مع كبار الفنانين والسياسيين الذين كانوا يزورونها باستمرار في بيتها. فعلتها بأفكارها اليسارية، وآرائها المثيرة للجدل عن حق المرأة في الإجهاض، وجدارة وقف الحرب في الجزائر، وأفكارها المؤثرة على اليافعين في وقت كانت فيه فرنسا تغلي بالاحتجاجات الطالبية.. وبعد، فساغان ليست إلا وصفة إبداع وإندفاع، ربما يفسر هذا تعلق الشباب بها، لأنه رغم الأذى الذي ألحقته بذاتها في حياتها الضاجة بالكحول والسيارات المسرعة والمخدرات التي جعلتها تقول بأنها ترى نهايتها رومانسية امام عينيها، إلا أن ساغان لا يمكن أن تكون إلا الوجه الجميل للفوضى، الوجه الذي يذكّر أصحاب الموهبة وعشاقها بأنّ هناك حياة بطولها وعرضها لكي يعيشوها، يذكرهم بأن الكتابة تأتي من الروح ولا عمر للإبداع... إلى الوحش الفاتن، إلى من ماتت وحيدة في بيتها رغم أنها كانت تكره الوحدة، في ذكرى وفاتها السابعة عشر، في ذكرى ساغان: Bonjour tristesse