لا تقف مجلّة «ماكو» عند مهمّة البحث والتوثيق في الفن التشكيلي العراقي فحسب، بل تسعى إلى وضع تجاربه ضمن سياق تاريخ الحركات والمدارس الفنية العالمية من خلال مراجعات بحثية وقراءات معاصرة لمساراته. بعد عددها الثاني الذي خصّصته لأبرز روّاد الفن التشكيلي العراقي الراحل رافع الناصري، ها هي تكرّس عددها الحالي إلى الفن النسوي، مضيئة على تجارب مختلفة في العراق، بالإضافة إلى تظهير تجربتين أساسيّتين في المحترف التشكيلي العراقي هما لورنا سليم وليزا فتاح. انطلقت المجلّة الإلكترونية خلال فترة الحجر جرّاء انتشار فيروس كورونا، بمبادرة من التشكيلي العراقي ضياء العزّاوي، الذي يملك أرشيفاً كبيراً من الفن العراقي.
من دون عنوان لليزا فتاح الترك (مواد مختلفة على ورق - 1987)

تفتتح العدد الحالي الباحثة والكاتبة تغريد هاشم في مقالتها «في الفن النسوي، عالميّاً ومحليّاً». تنطلق من محطّات وتحوّلات في الفن النسوي العالمي لتصل إلى تجارب نسائية في المحترف التشكيلي العراقي، وظروف عملهن، وعناصر لوحاتهن وتأثّراتهن. في مقالتها البحثية الوافرة، تستعيد هاشم فنانات هُمّشن ربّما أو انغلقن على ذواتهن أو تخفّين خلف تجارب عشاقهن الفنانين، مثل علاقة فريدا كاهلو ودييغو ريفيرا، والفنانة الفرنسية دورا مار مع بيكاسو. ترصد هاشم سمات بعض أعمال الفنانات حول العالم من أجيال مختلفة، وعوالمها، قبل أن تدخل إلى التجارب النسائية العراقيّة، مثل نزيهة سليم، ولورنا سليم البريطانية التي جاءت إلى العراق، ونالت شهرة تفوق شهرة نزيهة، أخت الفنان العراقي جواد سليم. تقرأ هاشم تجربة لورنا سليم، ولوحتها التي تطوّرت ونضجت في بغداد. كذلك، تلفت النظر إلى تجارب الفنانات العراقيات المتنوّعة وثيماتهن في العمل على الجسد، وأعمال أخريات من اللواتي تجرّدن من مفهوم الجندر، على حساب قضايا عامّة. تمنح المجلّة فرصة للتعرّف إلى أعمال ليزا فتاح الترك، الفنانة الألمانية التي تزوّجت من الفنان العراقي إسماعيل الترك، قبل أن تقيم كلّ حياتها في بغداد التي ماتت فيها. هكذا تأتي هذه المقالة الافتتاحيّة كمقدّمة للمقالات اللاحقة التي توغل في تجربتي الفنانتين. تحت عنوان «ليزا فتاح الترك: مراثي الروح والجسد» يكتب عمار داود عن حياة ليزا في موازاة سيرتها الفنية، وخلفيتها وحياتها منذ الطفولة، ولقائها في إيطاليا بالفتاح قبل العودة إلى بغداد. يرصد ملامح لوحتها، وكائناتها من المدخّنين، وغرفها، وكراسيها.

من جهتها، تستعيد مايسة كافل حسين حياة لورنا سليم في مقالتها «ابنة العراق بالتبني» (ترجمة: روان عيتاني)، وتأخذنا إلى بداية علاقتها مع زوجها جواد سليم، منذ لقائهما في بريطانيا حيث كان سليم يدرس النحت في معهد سليد. لدى زواجها بسليم لاحقاً، وقدومها إلى بغداد، تطوّرت تجربتها في العاصمة العراقية، وفضائها المكاني، وعمرانها وأشجارها وغيرها من العناصر التي اكتشفتها في جولاتها على درّاجتها الهوائية. لم تعرض لورنا لوحاتها حتى سنة 1950، في معرض الرواد في بغداد. كما أسهمت مع جواد في إطلاق مجموعة بغداد للفن الحديث، سنة 1951، مع شاكر حسن السعيد. نرى لوحات ومشاهد من الحياة البغدادية، وأخرى لنساء عراقيات بعباءاتهن واكسسواراتهن، والبيئة القروية وسكان الضواحي. ويسلّط المقال بشكل خاص الضوء على رسوماتها لأبنية عراقية تراثيّة. في المجلّة أيضاً مراجعات واستعادات لبعض الفنانين وتجاربهم في فن التخطيط، مثل الفنان علاء بشير وتخطيطاته مقالة لعبد الرحمن طهمازي. كما يكتب الفنان العراقي كريم رسن عن تجربته الفنية في التخطيط التي استحالت مساحة للتعبير من دون أيّ قيود، منها الوضع السياسي المتقلّب في العراق. وبقدر ما توغل المقالات والموادّ المنشورة عميقاً في قراءة التجارب الفنية مساراتها، تفسح المجلّة مساحة كبيرة للوحات وأعمال الفنانين وتفاصيلها كإعادة لإحياء هذا الأرشيف الفني الكبير وجعله متاحاً للقرّاء من خلال التعاون والاستعانة ببعض المجموعات منها مجموعة الجادرجي في لندن، ومجموعة الإبراهيمي في عمّان، ومتحف الفن العربي الحديث في الدّوحة ومجموعات أخرى.