ما الذي يدفع باحثين وجامعيّين متفرّغين لإيلاء الاهتمام لموضوع الغرافيك العربي وتاريخه، آخذين في الاعتبار أن الحديث هنا عن فنانين منتشرين في أكثر من عشرين دولة عربية تمتد مساحاتها من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي، يسكنها أكثر من أربعمئة مليون نسمة، إضافة إلى فناني المهجر، وما أكثرهم، فهل يمكن الإحاطة بهم جميعاً، بهية شهاب الفنانة والمصمّمة والمؤرّخة الفنيّة ومؤسِّسة برنامج التّصميم الغرافيكي في الجامعة الأميركية في القاهرة، التي شاركت في تأليف العمل الضّخم والرّيادي «تاريخ تصميم الغرافيك العربي» (A History of Arab Graphic Design ـــ منشورات الجامعة الأميركية في القاهرة ـ 2020)، تجيب قائلةً: «أردت تدريس مساق عن التصميم الغرافيكي العربي، فوضعت وصفاً لكتالوغ المادة في الجامعة، لكن واجهتني عقبةٌ رئيسة أثناء التخطيط للدورة وهي عدم وجود مؤلف أكاديمي لتدريسها».
يوسف عبدلكي «بالبندقيّة نحرّر فلسطين»

الفنان والأكاديمي هيثم نوار رئيس قسم الفنون في الجامعة الأميركية في القاهرة والمؤسس والمدير الفني لـ «مهرجان كايروترونيكا للفنون الإعلامية الإلكترونية والجديدة» في القاهرة انضم إلى المؤسسة نفسها بعد سنوات، فالتقيا وناقشا تطوير هذا الكتاب الأكاديمي بعدما اكتشفا وجود اهتمامٍ مشترك في تدريس هذه الدورة معاً. تقدّما بطلبٍ للحصول على منحةٍ من الجامعة الأميركية في القاهرة وحصلا عليها، ما مكّنهما من الانطلاق وزيارة بلدان مختلفة وإجراء مقابلات وتوثيق أعمال المصمّمين المختلفين. لكنّ إعداد هذا المشروع والبحث فيه استغرقا سنين عديدة.
عند بروزه أوّل مرة كتخصّصٍ متميّزٍ داخل عالم الفن في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم يكن للتصميم الغرافيكي، تعريفٌ واضح، وفق ما يرد في الكتاب. الفنانون والخطاطون وجدوا أنفسهم يعملون على تصميم التقاويم والحزم والملصقات وغيرها. بحلول منتصف القرن العشرين، ومع زيادة الطلب على الاتصالات المرئية الجماعية، ازدهر مجال تصميم الغرافيك أيضاً في المنطقة العربية.
يبدأ الكتاب بمقدّمة موجزة عن الفن والتصميم الإسلاميّين، والهدف أولاً وقبل أي شيء، إنشاء رابطٍ في أذهان القرّاء بالتاريخ المرئي للمنطقة التي غالباً ما يتم تجاهلها واستبعادها من مؤلّفات تاريخ التصميم الغرافيكي. المهمة الثانية للمقدمة هي تسليط الضوء على تأثير هذا التراث البصري في المصمّمين والفنانين في المنطقة العربية اليوم.
«التّصميم الغرافيكي» مصطلحٌ جديد لم يبدأ استخدامه إلّا في أوائل القرن العشرين، لكن الأنشطة الشبيهة بالتصميم الغرافيكي بدأت بالرسومات الأولى على الكهوف والتعبير المرئي للحضارات القديمة جميعاً. لا يمكن إنكار أنه في بعض النقاط من التاريخ، تم تطوير أنظمة بصرية عبر السلالات الإسلامية المختلفة وداخلها. قبل أن تتطور هذه الميزات المرئية إلى أنظمة، كانت هناك عناصر بصرية أساسٌ تمت مشاركتها وإنتاجها في الأراضي الإسلامية. المعرفة التي طوّرها المصمّمون الإسلاميّون لم يتمّ توثيقها للأجيال القادمة. مع وفاة كلّ خبير تصميم، ضاع جزءٌ من المعرفة. ومع أن هذه التقاليد الفنيّة لم تنتقل إلى الأجيال اللّاحقة، إلّا أنّ بعض المصمّمين العرب المعاصرين تمكّنوا من دراسة ما تبقّى من ثقافتهم البصرية وترجمتها بطريقتهم الخاصة إلى التصميم الحديث. لكن هذا الكتاب أبعد من السّرد التاريخي والاجتماعي والسياسي، إذ يتعمّق أكثر في الجذور الإقليمية لهذا التّخصص. بدأ الأمر منذ مئات السنين، مع التراث البصري للمنطقة. ومن دون فهم هذا التاريخ، يستحيل فهم التصميم الغرافيكي العربي بحسب مؤلفي الكتاب. بحث الاثنان في أربعة عناصر أساس للثقافة البصرية في المنطقة وهي: الخط العربي، والتصاميم الهندسية، والزخارف النباتية والفنون التصويرية. يقول المؤلّفان: «هذه الأشكال والزخارف الفنية متشابكة مع حياة الناس اليومية، ويمكن العثور عليها ليس في المخطوطات ورموز النبالة فحسب، بل في العمارة العامة وتصميم الأشياء اليومية أيضاً». فهذه العناصر المرئية استمرت في كونها مهمة في التصميم الغرافيكي للمنطقة، حتى مع تغير التقنيات، وظهور المطابع في المدن العربية في منتصف القرن التاسع عشر، إذ استمرت أهمية عناصر الخط على وجه الخصوص. فالخطوط لم تظهر في المجلات والإعلانات فقط، بل في تصميم الأشياء اليوميّة، مثل لافتات الشوارع أيضاً.
يضم أعمال أكثر من 80 مصمماً من المغرب إلى العراق، ويغطي الفترة من ما قبل عام 1900 إلى نهاية القرن العشرين


كيف نظر المصمّمون إلى أعمالهم؟ تورد بهية شهاب إن معظم مصمّمي الغرافيك «كانوا في الواقع فنانين اعتبروا تصاميمهم تلك عملاً تجارياً أنجزوه لكسب لقمة العيش. لسوء الحظ، هذا يعني أنّ العديد من المصمّمين الذين قابلناهم لم يوثّقوا عملهم في التصميم، لأنّ ذلك كان مجرّد عملٍ عادي في منظورهم».
يمتلئ الكتاب بالصور والجداول الزمنية، عارضاً التحولات في أنماط تصميم الرسوم مع الوقت. لكن الأهم من النظرة التاريخية العامة يتمثل في ملفّات تعريف المصمّمين الأفراد. ومن بين هؤلاء الفنانين المبدعين الفنان والمصمم المصري حسين بيكار (1913-2002)، الذي صمّم المئات من أغلفة الكتب والمجلات، ويوسف عبدلكي وحلمي التوني وغيرهم، إلى جانب مصممين أقل شهرة عملوا على ملصقات الأفلام والطوابع البريدية.
كيف اختار مؤلّفا الكتاب تصنيف المصمّمين؟ تورد بهية شهاب إنهما اختارا التصنيف على أمل خلق «خط واضح» للمصمّمين الشباب الذين يقرأون الكتاب، و«القصد هو التعليم، ونحن نفكر دائماً في كيفية إشراك القارئ الشاب، والمصمّم الشاب، وكان من المهم لنا تحديد صورة مع الاسم». لم نرد مجرد الكتابة عن «التاريخ بشكل عام والتصميم بشكل عام، أردنا إضفاء الطابع الشخصي عليه، ليشعر القراء أن لديهم جدات وأجداداً في التصميم الغرافيكي يمكنهم البحث عنهم».
في البداية، كان المؤلفان يعتزمان الاكتفاء بالمصممين العرب الذين يعيشون في البلدان العربية، لكنهم سرعان ما أدركوا أنّ الكتاب يجب أن يشمل فناني الشتات أيضاً. تورد بهية شهاب: «وجدنا تكرار هذه الرواية في كل بلد ذهبنا إليه تقريباً، هاجر هؤلاء الفنانون واستقروا في بلدان أخرى سواءً لظروف سياسية أو اجتماعية، وكان عملهم ضرورياً لسرديات المنطقة. لذلك كان من المستحيل كتابة المؤلف من دون تضمين أعمالهم».
عند اختيار ما يزيد قليلاً عن ثمانين مصمّماً ممّن تضمّنهم المؤلف، بحثت بهية وهيثم أولاً عن المصمّمين الذين يمتلكون إنتاجاً مرئياً إعلانياً قوياً. كما اتّضح لنا أنّ العديد من المصمّمين في المؤلّف، كانوا منخرطين سياسياً. ومع أن المؤلف يحوي فصلاً كاملاً يركز على التصميم العربي والعمل الفدائي الفلسطيني (1964-1970. ز م)، إلّا أنّه كانت هناك حركات مقاومة مؤثرة أخرى. على سبيل المثال، تعلّم الخطاط المصري مسعد خضير البورسعيدي الفن من شقيقه الأكبر محمد، الذي «كتب شعارات ثاقبة سياسياً ضد قوات الاحتلال البريطاني على جدران المنازل والمباني في بورسعيد في عام 1956». فالحركات السياسية الكبيرة غالباً ما توجّه التحولات في التصميم الغرافيكي.
هل واجهت الكاتبة والكاتب إحباطات؟ طبعاً وأحد أكثر الجوانب المحبطة في البحث كان نقص الأرشيف: «تبدو بعض الفجوات الكبيرة في المواد الأرشيفية سخيفة. لم نعرف من أين نبدأ لأن العديد من المصمّمين لم يحتفظوا بأعمالهم، ولا توجد مؤسسات حكومية تهتم بهذا العمل بما يكفي للاحتفاظ به».

لوحة الفنان الكبير حلمي التوني لغلاف مؤلف «سياحة الليل سياحة النهار»

عودة على بدء: ظهر تصميم الغرافيك العربي في أوائل القرن العشرين بسبب الحاجة إلى التأثير والتعبير عن التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية البعيدة المدى التي كانت تحدث في العالم العربي في ذلك الوقت. لكن التّصميم الغرافيكي كنوع من الفنون المرئية المعترف به رسمياً، لم يظهر إلا في المنطقة في القرن الحادي والعشرين، وحتى الآن، لم تكن هناك دراسة منشورة حول الموضوع يمكن الحديث عنها. يتتبع «تاريخ التصميم الغرافيكي العربي» الأشخاص والأحداث الذين كانوا جزءاً لا يتجزأ من تشكيل مجال التصميم الغرافيكي في العالم العربي. يناقش الكتاب أعمال أكثر من ثمانين مصمّماً رئيساً من المغرب إلى العراق، ويغطي الفترة من ما قبل عام 1900 إلى نهاية القرن العشرين وتم تقسيم المحتوى إلى خمس حقب. لكن المؤلف لا ينسى السيدات العربيات مصمّمات الغرافيك العربي ومنهن اللبنانية منى باسيلي صحناوي وقبلها المصرية الراحلة مريم عبد العال.
إذن، يبحث الكتاب في تاريخ التصميم الغرافيكي العربي ويحاول تتبع نشأته وأصوله، كما يوثّق عمل مصمّمي الغرافيك العرب وتراثهم الفردي في محاولة لتسليط الضوء على ماهيّة الثقافة البصرية العربية، وكيف تطور مفهومها خلال القرن الماضي. حاول الباحثان ربط تاريخ التصميم في العالم الإسلامي بالعصر الحديث من خلال فن الكتابة، واستكشفا حياة المصممين المختلفين (خمسة أجيال، حسب بحثهما) وإنجازاتهم الذين كان بعضهم الآباء المؤسّسين للتصميم في أجزاء مختلفة من العالم العربي، من المغرب والسودان إلى مصر والعراق ولبنان وسوريا وفلسطين... ومنهم عثمان وقيع الله (السودان) وحسين بيكار (مصر) من الجيل الأول. ومن الفنانين من الجيل الثاني الذين شملهم الاستطلاع في الكتاب: عبد الغني أبو العينين (مصر) وحسن فؤاد (مصر). ينظر المؤلفان أيضاً إلى أعمال برهان كركوتلي (سوريا) وحلمي التوني (مصر) وضياء العزاوي (العراق) ومحيي الدين اللباد (مصر) كفنانين من الجيل الثالث. وكذلك كميل حوا (فلسطين) ويوسف عبدلكي (سوريا) كفنانين من الجيل الرابع. ويختتمان بفنانين من الجيل الخامس أمثال وليد طاهر (مصر) ورؤوف الكراي (تونس).
ربط الكتاب عمل أولئك المصمّمين بالأحداث الاجتماعية والسياسية التي كانت تتكشف في عصرهم مثل: مشروع ناصر القومي العربي، والقضية الفلسطينية، والحرب الأهلية اللبنانية، وسياسة الباب المفتوح المصرية واللبنانية في السبعينيات، وإنشاء مدارس للفنون والتصميم في العالم العربي واستقلال الدول العربية، والتصميم في ما يتعلق بالثقافة والدولة والمستهلك.
برهان كركوتلي - عاش التضامن مع فلسطين

يعلم المؤلفان أنّ عملهما هذا ريادي، إذ إنّه أوّل مؤلف يتناول بالعرض والبحث هذا الموضوع، على أمل أن يصبح حجر الزاوية في المادة. الكتاب مخصّص لطلاب الفن والتصميم، والمصممين والفنانين الناشئين، ومؤرخي الفن والتصميم، وأي شخص مهتم بتاريخ الثقافة المرئية في العالم العربي. كما يستهدف المهتمين بمعرفة المزيد عن تاريخهم والمصمّمين والمؤرخين في أجزاء مختلفة من العالم المهتمين برواية موازية لتاريخ التصميم الغرافيكي في العالم. من الناحية المثالية، سوف يملأ هذا الكتاب الجميل، فجوةً بين الأجيال في العالم العربي ويثقّف طلابنا والأجيال القادمة حول تراثهم وثراء تاريخنا.
كما يهدف المؤلف إلى تغيير التاريخ العالمي لتصميم الغرافيك من خلال إعادة كتابته وتثقيف الجمهور العالمي عن هذا التاريخ. لقد قام الكاتبان بجزء من هذا من خلال المساهمة في البحث في منطقتنا، لكن تاريخ التصميم العالمي يشمل أيضاً مناطق أخرى وهما يتطلعان إلى قراءة أعمال العلماء الذين سيتفاعلون مع هذا المؤلف والبناء عليه.
مأمول أيضاً أن يقرأ الكتاب عامة الناس ونأمل أن يؤدي عملنا دوراً مهماً في جعل الناس يفكرون ويتساءلون عن أهمية التصميم وتأثيره وعلاقته بالثقافة.