توجد عبارة جميلة لأحلام مستغانمي تقول فيها: «الإنسانية دين الشرفاء»، وأضيف لها، أنّها ليست فقط دينهم بل نهجهم بالحياة، فجوهر الإنسان رؤيته للحقّ، بعيون الإنسان الذي لا ينتمي إلى أيّ رقعة جغرافية تُسمّى الوطن، بقدر ما ينتمي لإنسانيته، بوصَلته، التّي تقوده إلى الصواب دائماً. هكذا هم الشُرفاء الذين وقفوا ضد سياسات بلدانهم، لأجل أنْ يكونوا أحراراً في قول ما يُرضي ضمائرهم وانسانيتهم قبل أي شيء آخر.كثيرون هم مَن تركوا بصمتهم في التاريخ، وخلّدوا أسماءهم، فقط لأنهم كانوا بشراً وتصرّفوا كبشرٍ وحسب، من دون زيادة أو نقصان.
وأمثال هؤلاء المخرج الفرنسي René Vautier الذي توفي عام 2015 عن عمر 87، الذي استطاع أن ينقل صورة جزائر أخرى غير التي تروج لها سينما تعمل تحتَ إمرة ضبّاط فرنسا. سينما مأجورة لا تقول الحقيقة، بقدر ما تحاول تحريفها.
فمن هو رونيه فوتييه صديق الجزائر الذي قال عنه أندريه مالرو بأنه «فرنسي رأى الصواب وكان محقاً قبل الآخرين»؟
يعود صاحب فيلم «الجزائر تحترق» أو كما أطلق عليه اوليفييه أزام «تشي غيفارا السينما الفرنسية» في رواية صدرت حديثاً بعنوان «موفيولا: صانع الأفلام رقم: 4561» (دار ميم ـ 2021) للروائية الجزائرية المُقيمة في مصر زهرة كشاوي. تخلّد الكاتبة في هذا العمل رونيه فوتييه الذي أحبّ الجزائر بصدقٍ، إلى درجة أنه عادى بلده لأجل أن يُظهر للعالم زيف ما تنقله فرنسا عن الثورة الجزائرية. إذْ جاء على لسان البطل «شعرتُ بالأسى لأشياء كثيرة كانت تغطّيها الأفلام الموجهة والصور المتشابهة» وقوله أنّ الأفلام: «لم تعد الوسيلة الأكثر ملاءمة للحرب الجديدة في الجزائر».
من خلال بيئة روائية شيّدتها زهرة كشاوي من الخيال عن طريق رونيه فرديناند، ومنحتها بذرة الحياة من الواقع باستحضار المخرج الفرنسي، استطاعت أن تعيد أدبياً، الحياة لرجلٍ ربما لا يعرفه كثيرون منّا، إذ تنقلنا إلى الجزائر في الفترة الممتدة بين 8 أيار (مايو) 1945 حتى 1962، العام الذي استقلّت فيه الجزائر، وتحديداً قرية آرياس الجبلية، هذه القرية التي اختلقتها الروائية من وحي الخيال لتكون شاهدة على كل ما كان يحدث في قرى الجزائر أثناء فترة الاستعمار. إذ أنّ الكاتبة أضاءت الكثير من الجوانب عن معيشة أهاليها آنذاك، وما كان يعانيه سكّانها بسبب فرنسا المستعمرة، فلا شك في أنّه في القرى الجبلية الكثير من الحكايات التي توثّق لوحشية الاستعمار، وفداحة ما كان يرتكبه بحق الجزائريين، كباراً وصغاراً، من دون مراعاة لأحد. فالوحشية لا تعترف بشيء، سوى القتل الهجمي الذي لا تعرف الرحمة طريقاً إليه.
كذلك نقلت لنا تلك العلاقة الجميلة التي نشأت بين فرديناند الجندي الذي ضيّع رتبته، وهذه القرية التي اكتشف فيها عالم الفلاحين، عالماً آخر كان بالنسبة له الملاذ لمعرفة معنى الوجود، وكيف يمكن للإنسان أن يعثر على إنسانيته، من دون أن يحاول تقييدها أو ربطها بالانتماء إلى بلده الأم، بل تجاوزتِ الوطن، لتكون الإنسانية وطن الأحرار، أصحاب القضايا النبيلة، إذ فجأة يصبح بدل الجندي كاتباً فاراً من السلطات الفرنسية وذنبه أنه وقف إلى جانب الجزائر قضيّة وشعباً.
فالرواية ليست تخليداً لذكرى رونيه فوتييه وحسب، بل جاءت كتوثيق لما يحدث في قرى الجزائر من خلال قرية «آرياس» وإعادة احياء لتاريخ لا نعرف عنه شيئاً، فالأكيد أن لكلّ مكان بالجزائر قصصاً ما زالت لم تروَ تستحق أن توثق للأجيال القادمة. تستحضر الرواية أيضاً شخصية المولود الحافظي، العالم الفلكي الذي دمّر الاستعمار ساعاته، محاولاً قتل المعرفة وكل من يدعو إليها في الجزائر.
أعتقد أن قيمة الأدب في الطريقة التي يزواج فيها الحقيقة والخيال، لنقرأ في الأخير أعمالاً تصدر لنا روائيّاً حقائق نجهلها، كما أنّها تفتح لنا المجال للتساؤل والبحث، وتربط الأجيال القادمة بالماضي، من خلال احيائه روائيّاً.
فكم من رونيه فوتييه عرف العالم! وكم مناصراً للقضية الجزائرية عرفت الجزائر.؟
كتبت زهرة كشاوي قصّة صانع أفلام عاش مدفوعاً بأحلامه على حد تعبيرها في العمل: «عشتُ مدفوعاً بأحلامي الكبيرة؛ راغبًا في أن أكسر القواعد الميتة للتصوير، والعادات الكلاسيكية ضد الموانع والاحتياطات، ضد المدارس والنقابات»
وقصة كاتب يكتب ليجعل: «الآخرين وهم يقرأون يركضون أمام ما يفوق المليون لقطة».
تجدر الإشارة إلى أن فيلم رونيه فوتييه «أن تكون في العشرين في جبال الأوراس» نال جائزة النقاد العالمية في «مهرجان كان» العام 1973، كما لديه فيلم آخر بعنوان «الشعب يسير» (1963)، إلى جانب آخر ضد العنصرية بعنوان «أفريقيا 50» (1958). اكتشف فوتيبه الممثلة الإيطالية كلوديا كاردينالي المولودة بتونس التي مثلت فيلمه القصير «العقد الذهبي».