لندن | لما يَقرُبُ من ألفي عام بقي نيرون، الإمبراطور الروماني (تولى السّلطة عام 54 ميلاديّة، وامتد عهده للعام 69) تجسيداً للغلو المتفلّت، والقسوة المفرطة، والتهتك الأخلاقي الذي يمكن أن تهبط إليه أرواح البشر التعساء. وتسابق المؤرخون والأدباء والسياسيون عبر القرون لسلقه بألسنة حداد، روحاً حلّت بها اللعنة، ومجنوناً فاقداً للرصانة، وأنموذجاً لأسوأ أشكال الطغيان والاستبداد. بحسب المصادر التاريخيّة الرئيسة التي وصلتنا عنه في نصوص ثلاثة من كبار المؤرخين الرّومان، فقد تآمر نيرون لاغتيال أغريبينا والدته ـــ وعشيقته في بعض الأحيان ــــ عدّة مرات بالسم وبالغرق وبسقوط السقف، قبل أن يلفّق مقتلها على هيئة انتحار. وطلّق زوجته الأولى ـــ وشقيقته بالتبني ــــ كلوديا أوكتافيا ابنة الإمبراطور كلاوديوس، ثمّ نفاها، وأمر عبيده بقطع معصميها، وبرأسها أن يرسل إليه بعد قتلها في حمّام بخار ليقدمه هديّة لعروسه، النبيلة بوبايا سابينا التي اقترن بها عن حبّ. لكن زوجته الثانية ما لبثت أن قتلت هي الأخرى بعدما ركلها في بطنها وهي حامل أثناء شجار زوجيّ. وتقول المصادر ذاتها أيضاً إنّه بنى بأموال الدولة قصراً باذخاً على أراض في العاصمة بعدما احترقت مبانيها في الحريق العظيم (65 ميلاديّة). ونقل المؤرخون عن شهود عيان أن نيرون وقتها كان يقف على ذروة مطلّة على العاصمة، منتشياً بمشهد النيران تلتهم أحياءها بينما يستمع لعزف الموسيقى وغناء المحظيّات. ومن المتداول في إسرافه أنّه لم يرتدِ نفس الثّوب مرتين قط، وكان يقيم دورياً احتفالات أعراس وهميّة ماجنة، يعقد فيها قرانه على بعض من خصيانه، ساخراً من الوجهاء وكبار رجال الدّولة الذين كانوا مع ذلك يلتزمون بالحضور تجنباً لغضبه عليهم. وتَكرّر في المصادر أيضاً أنّه أمر بتصفية السّيناتور بوبليوس بايتوس لأن الطريقة التي كان يتحدّث بها الأخير جلبت للإمبراطور الاكتئاب.
لم ترض طبقة الأثرياء المتنفذة في العاصمة بالإصلاحات التي أجراها لصالح الفقراء

لكنّ معرضاً استثنائيّاً ينظمّه المتحف البريطاني في لندن هذه الأيّام عن «نيرون: الرجّل وراء الأسطورة» (يستمر حتى 24 تشرين الأوّل/ أكتوبر المقبل)، يحاول أن يستثير بمعروضات لِلُقى أثريّة متنوعة جمعت من عدّة متاحف عالميّة إعادة نظر شاملة في الصورة النمطيّة المعروفة عن الإمبراطور الذي أُلبس واحدة من أسوأ عباءات سوء السمعة في التاريخ. وفقاً لعدد من الباحثين والمؤرخين المعاصرين (أنظر مثلاً جون درينكووتر)، فإن سيرة نيرون المتداولة مليئة بالمبالغات، وغالبها تلفيق محض ومجرّد خيال مزوّر لثلاثة مؤرخين رومان مسيسين (كاسيوس ديو، وتاكيتوس، وسوتونيوس)، كُلّفوا بمهمّة تشويه سمعة السلالة الكلوديانيّة ـــ التي كان نيرون آخر الأباطرة المنحدرين منها ـــ لأغراض مرحليّة، تتعلق بتلميع سيرة خلفائه الباهتين. وقد نقل المؤرخون اللاحقون عن هؤلاء المزورين الثلاثة من دون تدقيق، وترددت ادعاءاتهم صدى عند أدباء ليس أقلّهم شكسبير (في مسرحيّة «هاملت»)، حتى أصبحت بتعاقب الأيّام كما لعنة دائمة التصقت بالرّجل، وتاريخه، رغم ما فيها من تناقضات ظاهرة وكذب بواح. فنيرون مثلاً لم يكن حتى في روما عندما شبّ حريقها الشهير، ومعظم ما احترق فيها كان مباني الأحياء الفقيرة والمهمشة التي تكدّس فيها الفقراء والمهاجرون. وهناك دلائل على أن بعض كبار ملاك العقارات أرادوا التخلّص من أولئك السكان نظراً إلى ارتفاع قيمة الأراضي في العاصمة بشكل جنونيّ. ونعرف الآن من مصادر أخرى بأنّه لمّا بلغت أنباء الحريق نيرون، عاد من فوره إلى روما وقاد بنفسه جهود الإغاثة ومحاولات الإطفاء، وأشرف بعد ذلك على وضع أنظمة جديدة للبناء تقلّل من فرص حدوث الحرائق وانتشارها بين الأحياء. وما كان من حال تهافت رواية حريق روما، ينطبق كذلك على معظم الرذائل الأخرى التي أُلحقت بالإمبراطور الشهير.
على أن فهمنا لتاريخ نيرون لا يكتمل بمجرد نفي الوقائع المشينة عنه، بل لعله من الأهمّ فهم سيرته في إطار الأوضاع السياسيّة والعسكريّة التي كانت تعيشها الإمبراطوريّة في زمنه والصراعات حول أحقيّة الوصول إلى السلطة بين العائلات الثريّة المتنفذة في العاصمة. ومع أنّ نيرون كان ضحيّة بغض شديد وانتقادات لاذعة في أوساط النخبة، لكنّه تمتع مع ذلك بتأييد القطاع الأكبر من المواطنين بفضل سلسلة واسعة من الاصلاحات الضريبيّة والقوانين المتعلقة بالعملة التي لم تحظ بقبول الأثرياء، لكن الجمهور الأوسع كان ممتناً. وقد أسس نيرون سوقاً جديدة في روما، وبنى مجمعاً مذهلاً من الحمّامات العامة التي سمحت للمواطنين العاديين بالاستمتاع بملذات الاستحمام والنظافة، وأحبه كثيرون كذلك لشغفه الشخصي بالمسرح والفنون المشهديّة كما الألعاب الرياضيّة، وحرص طوال فترة حكمه القصيرة نسبياً على كسر احتكار النخبة لها عبر تنظيم أنشطة جماهيريّة يتسنى حضورها للراغبين. توجهات لم تحظ برضى طبقة أصحاب النفوذ أبداً. وهناك نصّ منسوب للإمبراطور تراجان ـــ وصل إلى السلطة بعد ثلاثين عاماً من وفاة نيرون ــــ، تحدث فيه عن «السنوات الخمس النيرونيّة الجيّدة» في إشارة إلى الأعوام الأخيرة التي قضاها سلفه في المنصب.
ولذا فإن قبولنا لأيّ سرديّة تاريخيّة ـــ عن نيرون، أو غيره ــــ يجب أن يقترن دائماً باستجواب معمّق لدوافع من صاغ السرديّة وموقعه منها، والإطار الثقافيّ الكليّ للأحداث، وبغير ذلك، فإننا نحكم على أنفسنا بترداد ألاعيب المزورين. نيرون في النهاية لم يمت، كما نقل محمود درويش، بل انتحر مفضلاً الموت على الوقوع في يد أعدائه، وروما لم تقاتله بعينيها، بل أحبّة ناسها، وما عاداه منهم سوى أقليّة من الأثرياء الجشعين.