بدأ الحوار مع أنسي الحاج منذ زمن طويل. كنتُ لا أزال أعيش في بلدة إهدن، في أعالي الشمال اللبناني، حين نشرَ لي نصوصي الأولى في «الملحق الثقافي» لصحيفة «النهار» البيروتية. كنتُ حينها أنتظر مقاله الأسبوعي في ذلك الملحق، مثلما كنت أنتظر صدور دواوينه التي كنتُ أقرأها بشغف ودهشة. ثمّ عدتُ ووجدته في باريس التي لجأتُ إليها هرباً من الحرب الأهلية في لبنان، وعملتُ معه محرراً ثقافياً في مجلة «النهار العربي والدولي» فيما كنتُ أتابع الدراسة في جامعة «السوربون».
لم يتوقف الحوار بيننا حتى بعد عودته إلى بيروت، وغالباً ما كنت ألتقيه في مكتبه في صحيفة «النهار»، كما عدتُ والتقيته في باريس. في ذلك اللقاء، وكنا نجتاز المدينة من أوّلها إلى آخرها، أخبرني أنه كتب قصيدة يحكي فيها عن طفل يلتهم ثدي أمّه…
لم التفت إليه عندما كان يتحدث، بصوت خفيض، كأنه يستحضر الأمّ التي خطفها السرطان وهو في السابعة من عمره.
■ ■ ■
■ أنسي الحاج، سأعود معك الآن إلى تلك اللحظة بالذات، وأسألك السؤال الذي لم أجرؤ حينها على طرحه.
الأمّ حاضرة بقوّة في كيانكَ وفي كواليس نتاجكَ، شعراً ونثراً. ألهذا الحدّ طبعَ فقدان الأمّ المبكّر علاقتك بالعالم، وخصوصاً بالمرأة؟
طبعَ علاقتي بالمرأة إلى حدّ كبير. طبَعَني وطبَعَ كلّ شيء.

■ هل يمكن القول إنّ خوفك ينبع من هنا. من حالة الفَقد هذه، الفَقد الأولي، الأصلي؟
ربّما. إنه الخوف من الهاوية. الخوف من الصمت. كما يخاف التائه في الغابة من احتمال وحش.

■ ومتى بدأ هذا الخوف؟
منذ الطفولة. في طفولتي كنت أخاف من كل شيء. من الراهبات والتلامذة، من الرصيف ومن الطريق. من المطر الذي لا أعشقه إلاّ وأنا مختبئ وراء النافذة.

■ ديوانك الأوّل «لن»، يبدأ بكلمة «أخاف». وفي النص الأوّل نفسه تقول أيضاً إنّ «الخوف رقم لانهائيّ». وتضيف: «تملّكني الرعب». ثمّ تتساءل: «لكن الخوف! ما الخوف؟» أنسي الحاج، ممَّ تخاف؟
من الغامض يتمسّك بروحي. وأهرب. الهرب يرافقني باستمرار. أعتقد أنه الهرب من الهاوية. أحياناً يسقط المرء في الهاوية التي يهرب منها.

■ في مثل هذه الحالة، أين تبحث عن الخلاص؟
في الحبّ. والحبّ يفضّل أهل الخوف على أهل الجسارة لأنّ الأوّلين يهربون من الماضي ويفزعهم المستقبل، والحبّ يقطع لهم طريق الاتصال بالزمَنين.

■ لكن، ألستَ أنت القائل: «أسرطِنُ العافية، أهتك السترَ عن غدِ السرطان»؟
إنها صرختي في «لن»، وهي نفسها تخيفني، ولن أعود إليها. تنتابني، من حين إلى آخر، مشاعر إحباط أكيد، مشاعر يأس من الكتابة ككلّ، عندما أكتشف، كما اكتشفت عندما اندلعت الحرب الأهلية، أنها بلا جدوى.

■ لكنك لا تتصوّر العالم من دون الكتابة، وفي الكتابة إفراج عن الذات الداخلية ومحاولة للحفاظ عليها!
الكتابة لحظة استحضار الحياة استحضاراً أقوى. استحضاراً يجدّد التعلّق بها. لكنّنا جرحى الوجود. كلّنا جرحى الوجود، وأحياناً الشاعر يتقدم الآخرين، لأنّ جرحه مميّز، بل لأنّه يتميّز عن سائر الجرحى بتطلّع نحو عالم أكثر رحمة.
الحبّ يفضّل أهل الخوف على
أهل الجسارة لأنّ الأوّلين يهربون من الماضي ويفزعهم المستقبل


الكتابة لحظة استحضار الحياة استحضاراً أقوى. استحضاراً يجدّد التعلّق بها، لكنّنا جرحى الوجود

■ «كلمات كلمات كلمات»، «الحبّ الحبّ الحبّ»، أنتَ القائل إنكَ «شعوب من العشّاق» لا تتعب من ترداد هذه الكلمة!
لكلّ زمن لؤلؤة يسمّى على اسمها، ولجميع الأزمان شمس واحدة لا تُحتَسَب الحياة للإنسان ولا لسائر الكائنات من دونها. هذه الشمس هي الحبّ. وُجدَ الهواء ليتنفّس الكائن. وُجدَ الحبّ ليتنفّس الكون.

■ لكنّكَ تطالب المرأة دائماً بأوصاف وتصوّرات جاهزة: «ليكن باقي جسدك في مستوى عينيكِ»، «لملمي أسراركِ. لا تظهري لي منها إلا الفَتّان»، «بعينيها أولاً تصبح المرأة عاشقة ومعشوقة وليس بالعلاقة الجنسية»... لكنكَ تنسى أحياناً أنها من لحم ودم، أنها كائن يفرح ويعاني ويتألّم؟
أنا أتكلم على المرأة العاشقة. إنها المنارة الصغيرة والعتم كبير. المرأة كائن غرامي أولاً، أريدها أن تُحَبّ أكثر ممّا تُحِبّ. وهي، هذه المرأة بالذات، غيبوبتي عن العالم.

■ أنسي الحاج، أنتَ تتحدّث عن المرأة الهيولى، وتعبِّر عن إحساس بالضيق حيال جسدها. تريد لها جسداً آخر غير الجسد الآدميّ، لأنّ جسدها الآدميّ يعطّل الحلم! ألم تقل أنتَ نفسك: «حلّ مكانَ الحلم الروائح، اللُّزوجة، كركرة الأمعاء وباقي مفاعيلها، الصُّفرَة، البثور، القَيح، أصوات قضاء الحاجة»... تريدها كائناً أثيرياً، سماوياً، تريدها ملاكاً لا إنساناً!
الرجل بحاجة، مع المعشوقة، إلى وَهم بصلابة الوهم الذي عاش في كنفه عهدَ الأمّ.
■ إذاً، أنتَ تعشق صورة المرأة، صورة كوّنتَها أنتَ نفسك عنها، لا المرأة نفسها؟
الصورة هي المحبوبة. صورة المرأة كما تأتيك جاهزة. دع الحياة تلفّكَ كما تلفّ الزوابع الفضاء. لا تضعف لغير الحب ولا تقوى بغيره.

■ وهل يستقيم حبّ مع امرأة متخيّلة؟
أحياناً يخيّل إلي أنّ الحبّ الذي أكرّر وأعيد الكلام عليه هو غير الحبّ. هو ناتج سوء تفاهم، بحث غامض في خضمّ أوقيانوس لا يعبأ. أيّ حبّ هذا الذي لا يتّفق اثنان على تعريفه؟ هذا الذي يؤلم حتى الموت إذا تبودل ويؤلم حتى الموت إن لم يُتَبادَل؟

■ قلتَ مرّةً إنّ الحبّ هو الحرمان!
لا الجنسي ولا الروحي. بل الحرمان مما نجهل.

■ يقول رولان بارت في كتابه: «شذرات من خطاب عاشق»: «الكائن الذي أنتظره ليس شخصاً واقعياً، كثديِ الأمّ بالنسبة إلى الرضيع. أبتكره وأعاود ابتكاره بلا توقّف انطلاقاً من طاقتي على الحبّ، ومن حاجتي إليه، يأتي الآخر حيث أنتظره، وحيث عملتُ على ابتكاره. وإذا لم يأتِ، أتوهّمه: الانتظار هذيان». أتوافق على هذا الكلام؟
إلى حدّ كبير.

■ لكنكَ تعوّل كثيراً على الحبّ، أو بالأحرى على نوع من الحبّ المثالي. والمرأة، كما تتخيّلها، إما تكون قدّيسة أو عاهرة.
أنتَ تبالغ في كلامك هذا. وما ضير أن أركّز على المزايا المعنوية للمرأة؟

■ ألم تقل في «الرسولة بشَعرها الطويل حتى الينابيع» إنّ المرأة هي «الهالة حول الرأس»، وأنها تسكتُ «كمريم العذراء»، بعدما كنتَ تطلب منها في «لن» أن تنتظرك حتى تغادر المرحاض، وكنتَ تصرخ في وجهها، وبجرأة غير معهودة في الأدب العربي الحديث، قائلاً: «خُراجيَ في ظهرك، أين تذهبين»؟
تغيّرت علاقتي بالمرأة وانتقلت من المونولوغ إلى الحوار. كانت في السابق اختراعاً خيالياً، ثمّ أصبح لها وجود.

■ وهذا ما انعكس في لغتك الشعرية أيضاً، من «لن» و«الرأس المقطوع» إلى «ماضي الأيام الآتية» و«ماذا فعلتَ بالذهب ماذا صنعتَ بالوردة؟».
من قبل، كانت المرأة هي الوسيط لتخفيف وطأة الكوابيس الداخلية والعالم الخارجي، في ما بعد، اقتحمني هذا الوسيط مثل قطعة ضوء وقفت بيني وبين شلال من الظلام. هكذا انتقلتُ من اللعنة إلى التسبيح. وهذا هو الفارق الذي يلاحَظ في الكتابة والتعبير. الحب يُغيِّر، وأنا في البدء وفي الختام شاعر حبّ.

■ هذا يعني أنّ نظرتك إلى الحبّ تبدّلت مع مرور الوقت؟
تبدّلت بالفعل. كنتُ أظنّ أن لا أجمل من الحبّ حتى اكتشفتُ الحرية. الحبّ أسر. الحرية أجمل من الحبّ. «هذه هي الثورة الحقيقية في شعري»

■ تارةً تنظر إلى الحبّ بوصفه أسراً، وتارة أخرى يكون خشبة خلاص وجودية وميتافيزيقية؟
لماذا تريد أن تقيّدني بالثنائيات؟ أنا إنسان غير مؤمن ومؤمن، شريف وأزعر، عميق وسطحي، شفّاف وكثيف، غامض وواضح، بسيط ومعقّد. إنّها طبيعة النفس البشرية. أنا أسعى دائماً إلى خلق التوازن بين التناقضات: الحبّ واللاحبّ، الضعف والقوّة، الخير والشر، ولا أريد أن أتنازل عن وجه دون الآخر.

■ لكنّ الحبّ عندك هو أكثر تعقيداً من ذلك.
صحيح. الحبّ عندي واسع جداً فهو أيضاً الموت. هذا هو عالمي الداخلي، وهذه هي الثورة الحقيقية في شعري وليس الشكل...

■ كنتَ تدعو إلى التجديد، وفجأةً صرتَ تأنس، أحياناً، إلى كتبٍ وكتابات عادية تقليدية، ولا تتردّد في مدحها. هل تعبتَ من «مفاجآت الخلق»؟ هل «اهترأت الأعصاب كتفّاحة قديمة»، كما تقول؟
لا تحرّضني على عدم الكتابة. قد أستجيب فوراً. سبقَ أن قلتُ لك إنني، في ما مضى، توقّفتُ عن الكتابة. توقّفتُ نحو عشرين سنة، لكن ذلك كان بدافع الحبّ. لم يعد هناك حبّ. امّحَت الوجوه. خسفت اللحظات. التوقّف اليوم أحقّ، وهذا الأحقّ سيُحكم إغلاق النعش. أفضّل إغلاقه بطرف القلم.

■ طالما كان الموت حاضراً في كلماتك، لكنّ حضوره ازداد حدّة في الآونة الأخيرة، وأخذ منحى السكينة والخلاص. وأراكَ تستشهد بمسرحيّة «هاملت»: «أن نموت... أن ننام،/ لا شيء آخر./ (...) أن نموت... أن ننام» ! هل هي نهاية الخوف؟
للخوف أيضاً نهاية. لا النهاية السعيدة، بل أيضاً نهاية القدرة على الخوف. يصل الخائف إلى آخر الخوف وبجموح هادئ يطلع من الاختباء كاشفاً صدره وظَهرَه. لا هو استسلام ولا هو شجاعة بل بطولة التعَب، بطولة من استنفدَ طاقته على الرعب.

■ وهل ينطوي هذا الشعور على حرّية ما؟
حرّية الانسحاق. حرية الموت. الحرّية الوحيدة المتروكة لنا.

■ مع الاقتراب من نهاية هذا الحوار، يظلّ كلامنا ناقصاً إذا لم نلتفت إلى المأساة التي تدور حولنا. أنسي الحاج، أنتَ نظرتَ إلى المسلخ السوري من بعيد، ولم يكن لكَ موقف حاسم بالنسبة إلى هذا الموضوع؟
لا، هذا ليس صحيحاً. أنا ضدّ العنف بكلّ أشكاله؟ وممّا يستوقف في المشهد العربي، منذ بدأ «ربيعه» أنّ البديل المتقدّم هنا وهناك ليس أفضل من الذين خُلعوا أو هم مرشّحون للخلع. يبدو الشرق الأوسط أرضاً سائبة برسم من يخطفها.

■ لكن ألا تظنّ أنّ سوريا ما كانت لتدخل نفَق الأهوال التي هي فيه اليوم، وما كانت لتنفتح على جهنّم «داعش» و«النصرة» وأخواتهما، لو لم يلجأ النظام، منذ اللحظة الأولى، إلى الحلّ الأمني؟
كأنكَ تسألني إذا كنتُ مع بشار الأسد أو ضدّه؟ أنا مع قرّائي وقارئاتي في سوريا.

■ وهل يمكن أن تعزل هؤلاء القرّاء والقارئات عن مسؤوليات السياسة وانعكاسها العميق على حياتهم وموتهم؟
أكرّر: أنا مع قرّائي في سوريا...

■ هل هناك كلمة أخيرة كنتَ تريد أن تقولها ولم تقلها بعد؟
هناك أشياء لا تقال وهي النبع. هي أصل الماء. هناك شيء باطني متجذّر يأبى أن يخرج. يخرج الشعر، مثلاً، والشعر ليس كلّ شيء.

■ نصل إلى نهاية هذا الحوار ولا نسمع صوتك!
تجد صوتي في الفنّ، فالفنّ وحده يصطفي أخياره بين الخائفين. تجده في الكلمات التي كتبتُها، و«تحتَ حطبِ الغضب».
نستمع إلى صوت أنسي الحاج وهو يقرأ المقطع الأول من قصيدته تلك:
«ما عُدتُ أحتمل الأرض/ فالأكبر من الأرض لا يحتملها./ ما عُدت أحتمل الأجيال/ فالأعرف من الأجيال يضيق بها./ ما عُدت أحتمل الجالسين/ فالجالسون دُفنوا./ ريشة صغيرة تهبط من عصفور/ في اللّطيف الربيع/ تَقْطع رأسي./ مُتعَب ومليء مُتعب وجميل مُتعب تحت حطب الغضب./ لأنّي بلغتُ المُختار/ لأنّ امرأة ربّتني على تُراب شفّاف/ لأنّي عثرتُ على الحدود/ فتحتُ الحدود./ لأنّي وجدتُها وألغيتُ الحدود./ لم يعد لي صبر على مَن ورائي/ ولا على الأحبّاء السابقين./ عندما حصلتُ على الأكثر من أحلامي حصلتُ على الأكثر من الصحراء/ وبعدما صعدتُ العرش والشجر الخالية منه الدنيا/ حواني شجرُ البَرْد/ ولم أتحطّم لكنّي تعبت./ ولن يبكيني أحد/ حقّاً/ ولن يرتعشوا لغيابي/ حقّاً كما كُنت حاضراً/ ولن يستوحشوا مثل بُرج/ ولن يموتوا عليَّ موتاً يُضاهي حياتي».

لصياغة هذا الحوار، تمّ الاعتماد على نتاج أنسي الحاج، شعراً ونثراً، وعلى حوارات أُجريَت معه، وكذلك على لقاءات شخصيّة كانت جمَعَتنا في بيروت وباريس.