««اللغةُ العربية في داخله، كما هي في داخلك. مَنْ أنتِ حتَّى تقولي لي ماذا في داخلي؟!» فابتسمَتْ. هكذا كانتِ النهاية التي ستُعيدنا لبداية رواية الكاتبة الكندية من أصلٍ فلسطيني يارا الغضبان « أنا أرييل شارون» (منشورات المتوسط 2021، ميلانو، إيطاليا). هذه سيرة ذاتية مخيالية لأرييل شارون، إذْ أنها بشكلٍ ذكي وبسرد محبوك تمكّنتْ مِن أن تدخلَ في عقله أثناء فترةِ غيبوبته التي دامتْ ثماني سنوات أي مِن العام 2006 حتى وفاته العام 2014، لتُسائله أدبيّاً عنه إنسانيّاً، من خلال أمّه التي ورثَ عنها حدّة الطباع إلى زوجتيه والممرضة ريتا التي اختارتْ لها الكاتبة اسماً مُشابها لاسم حبيبة درويش الإسرائلية والتي كانتْ ممرضة هي الأخرى (أو لربّما اسم الممرضة الحقيقي).يارا الغضبان من خلال «أنا أرييل شارون» منحت لخيالها قُدرة الدخول إلى عقل أرييل شارون أثناء غيبوبته لمقاربة أفكاره المحتملة عن نفسه ذلك الوقت، وكيف ستكون ردّة فعله إزاها. هُنا باعتقادي أرادت الوصول إلى نقطة مهمة، وهي خلق نهاية مخيَالية صادقة أدبيّاً، لشخصية حقيقية كانتْ قاسية وعنيفة حياتيّاً، هذه الميزة تحديداً لا تصدر عن كاتب وفقط، وإنما عن دراسٍ ومتعمق في علم النفس، يحاول جاهداً أن يضعَ القارئ أمام المشهد من دون تكلّف ولا تزييف.
انطلقتْ يارا من الواقع لتحاول النبش في الذاكرة والهوية، فالذي يطّلع على العمل، يدركُ أنّها لم تحاول التعاطف مع شارون ولا الحديث عنه كما يفعل من اعتاد الخوض في مثل هذه الأمور، بقدر ما قامتْ بتحليل نفسي في شكلٍ روائيٍّ لهذه الشخصية التي كان لها دورها القاسي على الشعب الفلسطيني، إذ راحتْ يارا غضبان تكشف عن شخصيته في آخر أيامه من خلال المقربين منه، لتحاول إعادة رسم لهذه الشخصية في ذهن المتلقي، من خلال بُعديها السياسي والإنساني، كمتفرجة، من دون أن تحاول فرض آرائها هي ككاتبة، مِن وراء الشخصيات المخيالية، بلْ رسمتْ لتلك الشخصية شروحات أخرى. وانطلاقاً من تلك الشُروحات، يمكن للقارئ أن يستوعب ويحلّل شخصية أرييل شارون من وجهة نظره.
أعتقدُ أن أصعب ما في الأدب هو الإتيان بشخصية جاهزة تاريخيّاً وإعادة بعثها أدبيّاً، ولكن هنا لا تأتي بما يقوله التاريخ عن هذه الشخصية، بل تصور ردود فعل تلك الشخصية انطلاقاً مِن الحادثة التاريخية ودراسة كل الأجواء المُحيطة بها، لمحاولة مقاربة أفكار تلك الشخصية وما تريد قوله، إذ كان ليارا دور مزدوج ككاتبة، وكمحلّلة أو طبيبة نفسانيّة لا تُحاكم المريض بقدر ما تحاول سماعه للنهاية وإعطاءه كل الفُرص قي قول ما يريد، فليس سهلًا أن تغوض في عقلِ شخص ميّت، وأيّ ميت؟! أرييل شارون! لتُعيد عن طريق الكلمات استنطاق تاريخه الذي لم يدوّن والكلمات التي لم يقُلها، من خلال النساء اللواتي كان لهن الأثر البارز في حياته في مراحل متباينة، انطلاقاً من الأم المُهاجرة وبيئها القاسية، إلى زوجتيه وعلاقة الحبّ وكل ما تخلّلها، إلى الممرضة وفلسطين.
وهكذا فإن رواية «أنا أرييل شارون» عمل مكتوب بنفس شعري شديد الغموض، كثير الرمزيات، فمن اعتاد أن يقرأ بدون تركيز، فلن يذهب أكثر من تفسير العنوان.
لقد أثبتت يارا أن قوة الخيال إلى جانب المعرفة هي الإرث الحقيقي للإنسان الذي لا يمكن أن يخلق رواية فحسب، بل أن يستنطق الأدب عقول من ماتوا ليصنع لهم مسارات جديدة، تقول بعملها:
«الإرث الحقيقي هو الذي تبنيه في عقلكِ، وليس ذلك الذي يؤول إليكِ بالوراثة. إنه الإرث الوحيد الذي لن يتخلَّى عنكِ أبداً، لا يخونكِ أبداً، ولن تكوني أسيرة له أبداً».
على الرغم من أن الرواية صغيرة الحجم لكنّها مُثقلة بما تريد إيصاله، فالكاتبة ذكية جداً، تمتلك مقدرة كبيرة في أن تقول الكثير بدون حشو ولا كثرة كلام، تعتمد على الاقتصاد اللغوي وعلى اللغة الشعرية القوية.
المطلع على العمل سيتساءل: ترى كم لزم يارا من البحوث ومن الشجاعة لتكتب بهذا الشكل عملًا لا ينحاز للشعر، ولا للرواية ولا للسير بشتى أنواعها، بقدر ما ينحاز للأدب عندما يُعيد تمثيل الحياة والانتصار للمظلوم حتى وإن بدا لنا عكس ذلك. يارا الغضبان روائية من أصل فلسطيني، تعيش في كندا، لديها ثلاث روايات باللغة الفرنسية، ترجمت منشورات المتوسط إلى اللغة العربية آخرها «أنا أرييل شارون» الصادرة العام 2018. إذ أنها أول عمل لها ينقل إلى لغتها الأم، حازت الرواية جائزة «مهرجان بلو متروبوليس» (2019) وقد ترجمت كذلك إلى الإنكليزية (2020).